قال: 'ومنها قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة:٤٩ - ٥٠] فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لاتباع الهوى؟! ' هذا لا يمكن؛ لأن المشرِّع أو القانوني أو المنظر إنما يضع أو يكتب أو يقرر من خلال ثقافته وفكره، وما يرى أنه صواب، فهو متبع لهواه بلا ريب، لأن كل ما خالف شرع الله ودين الله تعالى فهو هوى.
فجعل الله تعالى شيئين متقابلين إما ما أنزل الله، وإما أهواء الذين لا يعلمون، فمهما كانوا في العلم الدنيوي فإنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، ومهما ادعوا أنهم بلغوا من المعرفة فهم لا يعلمون؛ لأن هذا حكم الله عليهم، ولذلك نجد أن سائر من اشتغل بهذه العلوم يعلمون أن الإنسان إذا اجتهد وتخصص وبحث في الأمور التجريبية، أو الطبيعية، أو الرياضية، أو ما أشبه ذلك أنه يأتي بشيء نافع ولو في دنياه، ويكون ذلك من العلم الظاهر في الحياة الدنيا، ولكن تجد أن الفرق كبير جداً بين النظريات العلمية كما تسمى في عصرنا الحاضر بالتجريبي والتطبيقي، وبين الدراسات والنظريات التي يسمونها الإنسانية، التي تتعلق بعلم النفس، وعلم الاجتماع، والإدارة والنظم، والقوانين أو ما أشبه ذلك، تجد الفرق بين هذين كبيراً جداً، وتجد أنها أهواء كما ذكر الله تبارك وتعالى.
والدراسات النفسية والاجتماعية مأخوذة ومركبة على أهواء كثيرة، وأراء متناقضة مختلفة، فلا يجد الباحث شيئاً يستطيع أن يجزم بأنه حق، قال: 'وأن من تولى أصابه الله ببعض ذنوبه' أي: شرع غير شرع الله ثم تولى عما شرع الله، أصابه الله ببعض ذنوبه:{فَإِنْ تَوَلَّوْا}[آل عمران:٣٢] أي: عن اتباع ما تحكم به من الحق، وما أنزلنا من الكتاب والشرع:{فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}[المائدة:٤٩].
وكل أمة وكل فرد وكل مجتمع لم يحكم بما أنزل الله فلا بد أن يصيبه الله ببعض ذنوبه، يقول: 'لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة' فالمؤاخذة بجميع الذنوب لا تكون إلا في الآخرة، لكن في الدنيا يؤاخذ ببعض ما كسبوا ويعفوا عن كثير، مع أنه لا يصيبهم إلا بما كسبت أيديهم، لكنه يعفو ويصفح ويتجاوز ويمهل حتى إذا ظن الظالمون أن ذلك منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إهمال أو نسيان، أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون.
قال: 'وهل هناك أيضاً من يوصف أنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يؤمنون؟! '.
وفي قوله:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}[المائدة:٥٠] نجد أن الأحكام على نوعين فقط لا ثالث لهما: إما حكم الله الذي أنزله في كتابه أو جاء به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أخذ منه، وهذا كله يشمله حكم الله، أو حكم الجاهلية، سواء كان تشريعات بدائية أو أعراف البادية، أو سلوم القبائل، أو كانت نظم ودراسات متطورة حديثة في أرقى المجتمعات حضارة، فكلها يطلق عليها اسم واحد، وهي أنها حكم الجاهلية، ولا فرق بينها.
ولذلك يلبس أحياناً على العقول بأن حكم الجاهلية هو الذي كان في الجاهلية الأولى قبل الإسلام فقط، لكن الذي يأتي من دول الغرب والباحثين والدارسين ومن الفقهاء -فقهائهم- لا يسمى جاهلية!! بل هذه دراسات علمية أو نظريات علمية!!! إلى أن يقول: ' {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}[الأنعام:٥٧] فهل فيهم من يستحق بأن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين؟! ' ويفصل في الأمور كلها!