للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نظرة إلى ما كان عليه السلف من التلقي والدعوة]

لننظر إلى تلقي الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وكيف تلقوا هذا الدين، وماذا بعد التلقي.

النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أنزل عليه قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:٥] قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحمل هذا القول الثقيل، وأنذر الناس؛ فجاءه أولئك الثلة المؤمنة الذين آمنوا بالله وصدقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأول شيء حدَث أنهم غيَّروا قلوبهم، وغيَّروا نظراتهم وموازينهم وآراءهم، فكل شيء في حياته تغيَّر لأنه قد تحول من الكفر إلى الإيمان، وأصبحت النظرة نظرة الانقياد لشرع الله، ماذا أمر الله؟ وماذا أحل الله؟ وماذا حرم الله؟ هكذا كانوا، لماذا كان الجاهليون يرتكبون الموبقات، ويسفكون الدم في الشهر الحرام في البلد الحرام، ويقطعون الطريق، ويئدون البنات؟ وكانوا لا يتورعون عن أي فضيعة من الفضائع، فأصبح الواحد منهم بعد ذلك يرجف من خوف الله -عز وجل- إذا قيل له: اتق الله، كلمة واحدة كانت تهز قلوبهم.

ولهذا ورد أن حماد بن زيد رضي الله عنه قال لـ أيوب: أي العلم كان أكثر: في زماننا أو في ما كان قبلنا؟ فقال أيوب رضي الله عنه: العلم في الزمن الأول أكثر، ولكن الكلام اليوم أكثر.

هذا في زمنهم فكيف بزمننا؟! الكلام كثير، فبعض الكتب الآن عشرة مجلدات، لكن ما أثرها وما مفعولها؟ الصحابة رضوان الله عليهم كانت تنزل آية، أو يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً، وهذه مواعظه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أيدينا، فتراهم يخفضون أصواتهم، ويبكون من خشية الله تعالى، ولا تنتهي الموعظة بل تستمر معهم، ويتذكرها الواحد منهم مادام حياً؛ لأن قلوبهم طهرت، ونقيت، وصفيت لتلقي هذا العلم، وتلقي هذا الدين؛ لأنهم أذعنوا واستسلموا لأمر الله تعالى، همهم دائماً هو قال الله وقال رسول الله ولا كلام بعد ذلك، علموا أن الله لا يقبل منهم إلا ذلك كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥].

حرم الله الخمر -وما أدراك ما الخمر إذا تعلق بها الشخص؟ - ودول العالم الآن جميعاً تعاني من مشكلة الإدمان، وكيف تقضي على الإدمان، ففي أمريكا الميزانية الإضافية لمشكلة المخدرات ثلاثة آلاف مليون دولار، هذه مبالغ إضافية لمكافحة الإدمان، هذا الشيء الذي يسلب لب الإنسان -نعوذ بالله-، لما أنزل الله تبارك وتعالى تحريم الخمر ماذا فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- عندما سمعوا قول الله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:٩١]؟ قالوا: انتهينا وربنا انتهينا -بدون تفتيش ولا محاكمات ولا هيئات مكافحات- أريقت الخمر حتى جرت في شوارع المدينة، إننا نقول: متى تفيق القلوب التي تتلقى أمر الله سبحانه تعالى.

ليس المسألة كما يُقال الآن: الوعي، الثقافة، المعرفة، وهل هناك مجتمع أوعى من مجتمع أمريكا في المجتمعات المعاصرة؟! أمريكا حرمت الخمر سنوات؛ ثم اضطرت أن تبيحها لما رأت انهماك الناس وإقبالهم عليها والمصانع في البيوت، فالدستور الأمريكي لم يتغير فيه إلا مادتين فقط مدة عمر هذا الدستور، هما: المادة التي حرمت الخمر، والمادة التي ألغت التحريم، وبقية الأمور ثابتة.

ومن الغرائب عن الشيوعيين -وهم الذين يتزعمون الجبهة الشرقية-ما جاء في كتاب ميخائيل جورباتشوف إعادة البناء يقول -فيما معنى كلامه-: إن الخمر فتكت بشبابنا، ونريد أن نقضي على مشكلة الخمور والإدمان، وقد بذلنا جهوداً في ذلك، وقد اقترح البعض عدة تشريعات لمنع الخمر، وقد فكرنا في ذلك، ولكن هذا لا يجدي؛ لأنه ما إن فُكِّرَ في اتخاذ هذا الإجراء حتى انتشرت صناعة الخمور الجوفية، فصنعوها في البيوت، إذاً فلا فائدة من ذلك، فالقضية ليست قضية وعي، ولا قضية ثقافة، ولا قضية أن الناس يرون شعارات براقة فيتركون ما حرم الله، إنما المسألة مسألة إيمان وقع في القلوب.

ولذلك كان شعار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام إذا كانت هناك معصية أن يقولوا: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:١٥] فيحاول الإنسان ألا يقع في معصية أبداً ويقول: يجب أن أخاف من عذاب الله، وهذه تقع في الحالات التي لا تُراقب، ولا يطلع عليها أحد، وهذه هي حالة التقوى كما وقع ليوسف -عليه السلام- مع التي راودته وهو في بيتها، قص الله ذلك بقوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} [يوسف:٢٣] امرأة العزيز راودته، وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك، فكل الاحتياطات متخذة، فلا خوف من أي شيء، ومع ذلك لم يفعل! والرجل الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث: {ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} وكذلك: {الرجل الذي أطبق عليه الغار، وكانت له ابنة عم وكان يراودها عن نفسها فامتنعت، فلما احتاجت جاءت إليه فرفض أن يعطيها إلا بعد أن تمكنه من نفسها، فلما جلس بين رجليها قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام خوفاً من الله}.

فهؤلاء هم الذين خافوا الله دون أي رقابة، وهذه هي القلوب التي تتلقى ما أمر الله به، فتظهر ثمرة خوفهم وبركته في أعمالهم هم، ثم بعد ذلك يدعون الناس إليه، ولا يتأخرون، فكانوا رضوان الله عليهم يستثقلون الإكثار من طلب العلم؛ لأنه حجة الله تعالى، يقول أحدهم: لماذا استكثر من حجة الله علي؟ مع أنهم أحرص الناس على العلم، ولكن إذا كنت أتعلم العلم فأعمل به، وأدعو إليه، فهذا شيء ثقيل، ومن هنا كان يستثقل أن يزداد شيئاً من العلم، لكي لا تزداد الأمانة عليه، وتزداد مسئوليته، فلابد أن يقف موقفاً ما.

ولهذا لما تعرض الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- للفتنة قيل له: تأول، فقد تأول بلال وتأول عمار، قل كلمة وانج بنفسك، فقال له: اخرج إلى الباب وانظر، فخرج فإذا الناس في الباب واضعين أقلامهم يكتبون، فقال الرجل: ماذا تصنعون؟ قالوا: نسمع إلى ما يقول أحمد فنكتبه، فقال الإمام أحمد: والله لا أضل هؤلاء.

سبحان الله! لما أن طلب العلم ورفعه الله به، وحفظ من السنة ما حفظ، ووعى منها ما وعى؛ كان مثالاً حياً لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصبح الناس يأخذون عنه ما يقول، فهم يحسبون حساب التبعة الثقيلة.

وليس كل أحد يسعه السكوت، وليس كل أحد تسعه التقية، بل لابد للأمة من قيادات، ولابد لها من أناس نذروا أنفسهم لله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:٥٤].

ويكون الإنسان محباً لله إذا كان محباً لأوامر الله تعالى، ويكون محباً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا كان محباً لأوامره، ومن هنا يأتي ما نأمله من قلوب تتلقى ذلك بمحبة، وبإذعان، وبإخبات لله تعالى، وهذا هو مقتضى العبودية.

وهذا معنى أنني عبد مؤمن مسلم وليست تلك المعارضة، أو المنازعة، أو المدافعة لما جاء عن الله أو جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك كان وجوباً على أي متبع لشيخ، أو لإمام، أو لعادة من العادات، أو لأي أمر من الأمور، لابد أن يرغم النفس لتوافق قول الله وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.