[طلب الهداية من الله وحده]
بعد ذلك تأتي نداءات تالية لتبين عجز هذا المخلوق الضعيف، وافتقاره إلى الله تبارك وتعالى: {يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} أي: أخرجكم من الضلال الذي يسبب شقاء الدنيا والآخرة، والذي لافلاح معه ولا نجاح، ولا خير فيه ولا سعادة.
فهذا الضلال {كلكم ضال إلا من هديته}، فكل خلق الله، وكل عباد الله ضالون إلا من هدى الله، ومن منَّ الله تعالى عليه وتفضل بالهداية.
ومن هدايته لهم: أنه خلقهم على الفطرة القويمة، وأنه أرسل إليهم الرسل، وأنه أنزل عليهم الكتب، وأنه أعطاهم العقول ليفكروا بها وليتدبروا طريقهم بها، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:٧٨].
فهكذا الإنسان، أول ما يخرج لا يعلم شيئاً، ثم يمنُّ الله تبارك وتعالى عليه، بالعلم وبالسمع والبصر والفؤاد، ثم يبين له طريق الخير من طريق الشر، فمن وفقَّه الله تبارك وتعالى للهدى فلا مضل له، ولكن من خذله الله وحُرِمَ توفيق الله تبارك وتعالى للاهتداء إلى الطريق القويم، وركنه الله إلى نفسه وعقله ورأيه وتدبيره، فقد خاب وهلك.
فمن لم يوفقه الله -تبارك وتعالى- لسلوك طريق الحق فإنه ضال لا محالة، مهما بدت أمامه الحجج، فمع أنه مولودٌ على الفطرة، وأمامه الحجج والآيات البينات، والآيات المقروءة في كتاب الله، والآيات المنظورة في صفحات الكون، والآيات المرئية أيضاً من آثار الغابرين السابقين، فكلها أمام عينيه، ولكن إذا خذله الله، ولم يوفقه، فإنه لا يؤمن ولا يعرف طريق الحق أبداً.
فإذاً كلنا ضلال إلا من هدى الله، فماذا ينبغي لنا أن نفعل؟! {فاستهدوني أهدكم}، فما علينا إلا أن نطلب الهداية من الله -تبارك وتعالى- آناء الليل وآناء النهار، ولهذا أُمر المؤمنون أن يقرءوا في كل ركعة من صلاتهم أم الكتاب، وفيها يقولون: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٦ - ٧].
فعباد الله المؤمنون المصلون، العابدون، يطلبون الهداية من الله تبارك وتعالى في كل يوم بعدد ركعات صلاتهم، فريضةً كانت أم نافلة، ويعلنون أنهم إن لم يهدهم الله تبارك وتعالى، فقد ضلوا إما ذات اليمين أو ذات الشمال، فكانوا إما مع المغضوب عليهم، وهم: الذين رأوا الآيات البينات، وعرفوا الحق، ولكنهم لم يتبعوه، وإما مع الضالين، وهم: الذين عبدوا الله تبارك وتعالى على جهل، فلم يتبعوا ما أنزل الله وما شرع، بل عبدوه بالبدع، لا بما شرع.
فيقول تعالى: {كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} فاطلبوا هدايتي، وادعوني أن أهديكم، والإجابة من الله تبارك وتعالى متحققة: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:١٢٢]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:٨٧].
فإذا أقبل العبد على الله وطلبه الهداية ورجاه، فإن الله تبارك وتعالى يهديه ولا يخيبه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩] فمن جاهد في الله يريد وجه الله ويريد معرفة الحق، أوصله الله تبارك وتعالى إليه.
ألا ترون إلى قصة سلمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه- كيف أنه خرج يطلب الدين الحق، وكيف عَبَدَ الله بـ المجوسية مدةً من الزمن، ثم انتقل من راهبٍ إلى راهب، وهذا يسلمه إلى ذاك، وهذا يحوله إلى ذاك، حتى مَنَّ الله تبارك وتعالى عليه بلقاء المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فآمن بالله، وجاهد في الله، وطلب الهداية وسعى من أجلها، فلم يمت إلا وقد قرت عينه بالإيمان، ورأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩].
إذاً الافتقار الأول هو الافتقار إلى الهداية، وهو أشد أنواع الافتقار بالنسبة للمخلوق، فالعبد المخلوق أفقر ما يكون إلى هداية الله، ولذلك قدمت الهداية على الطعام وعلى الكساء، لأن أهم شيء هو: أن يهتدي الإنسان إلى الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ} [الرحمن:١ - ٣].
فامتنَّ الله تبارك وتعالى بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان، مع أن الإنسان لن يستطيع قراءة القرآن إلا إذا خُلق، ولكن أعظم من كونه مخلوقاً: أن يكون عالماً بالقرآن، عاملاً به، مهتدياً إلى ربه، وإلا فكم من مخلوق لا يعرف ربه ولا يعرف القرآن، فحياته نقمة عليه، لأنه والدواب سواء، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:٤٤]، فهم أضل من الأنعام.
فالهداية هي أحوج ما يبحث عنه الإنسان، وأشد ما يفتقر إليه، ولذلك فإنها قدمت في هذا الحديث، على ما سيلحقها بعد ذلك.