قصة أبي خيثمة وتخلفه عن تبوك أولاً
أيضاً من التائبين -كما ورد في السيرة- الذين اقترن بالذنب ما جعلهم يتوبون ويهتدون ويستقيمون: الصحابي الجليل أبو خيثمة رضي الله تعالى عنه، والإمام ابن قدامة رحمه الله يروي بالسند، وهو عالم محدث فقيه بارع كما تعلمون، ولذلك يروي القصص التي يوردها بالأسانيد، سواءً أكان إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد العلماء من المؤلفين، أو إلى كتب رواة الإسرائيليات وأخبار بني إسرائيل إن كان السند ينتهي إليهم، وهو كما تعلمون من الأئمة المجاهدين، ابن قدامة رحمه الله كان مع صلاح الدين الأيوبي في معاركه، ومع ذلك كتب المغني الذي ترون، وهو من أعظم وأنفع كتب الفقه المقارن، وله مؤلفات نافعة غير ذلك مع انشغاله بالجهاد، وله هذا الكتاب، فذكر بإسناده إلى ابن إسحاق المعروف، صاحب السيرة.
يقول: (تخلف أبو خيثمة أحد بني سالم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حتى إذا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع أبو خيثمة ذات يوم إلى أهله) وهذا التخلف ما حكمه؟ حكمه كبيرة {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:١٢٠] (ما كان لهم) هذا من أقوى أنواع التعبير في التحذير والنهي.
(ما كان لهم) يعني: لا يصح ولا يليق بحال من الأحوال أن يتخلف أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرغب بنفسه عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على الله في الحر والرمضاء والحرب واللأواء وهذا في الظل الظليل الوارف مع الأهل والعيال وفي المزرعة، لا ينبغي ذلك، ولا يليق بأي حال من الأحوال؛ لكن هذا الذي لا يليق ولا ينبغي وقع فيه أبو خيثمة رضي الله تعالى عنه.
(فعاد إلى امرأتين له في عريشين له في حائط) وكما تعلمون كانت الغزوة -كما جاء في حديث الثلاثة- في شدة الحر والقيظ، وكما جاء في القرآن لما قال المنافقون: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:٨١] فرجع، ما كان عندهم كالآن مغريات مثلنا، يعني لما تقرأ المغريات التي كانت في عصرهم -الله المستعان! - المغري كله أن كلاً منهما لديها عريش ورشت الماء من حوله، فكان بارداً بالنسبة لهم، وبالنسبة لنا لا يُعد بارداً، ولا من البارد في شيء.
(فأتى امرأتين في عريشين له في حائط) الحائط يعني: المزرعة والبستان.
(قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبرَّدت له فيه ماء، وهيأت له طعاماً) برَّدت الماء بالطرق البدائية جداً كما تعلمون، وهيأت الطعام، وتعال يا أبا خيثمة! يعني: الزوجة والظل والعريش والماء البارد والطعام، هذه غاية المغريات المثبطات في زمانه.
(فلما دخل قام على باب العريش ينظر) الآن استيقظ، الذنب وقع؛ لكن حفت به هذه القرائن، وقف على باب العريش ينظر.
(ثم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر) في الضح أي: شدة حر الشمس.
ضحوت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة ناقصا
قال: -وأبو خيثمة هذا يقول عن نفسه: (رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر وأبو خيثمة -الآن يخاطب نفسه- في ظل وماء بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، ما هذا بالنَّصَف) يعني: هذا ما هو عدل ولا إنصاف أبداً، ولا يليق ذلك أبداً، ربما لم تكن الآية قد نزلت بعد، والظاهر أنها ما نزلت إلا بعد ذلك؛ لأن فيها: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:١١٨]؛ لكن هو عرف أن هذا لا يليق ولا يحق بحال من الأحوال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وأن يتخلف عنه أبو خيثمة، ويرغب بنفسه عن نفسه، ويتمتع ورسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحال.
(قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زاداً، ففعلتا، ثم قدما ناضحه فارتحل، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركه حين نزل تبوك) كما تعلمون آخرها: (لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الراكب من بعيد فقال: كن أبا خيثمة.
فذهبوا فوجدوه، فقالوا: يا رسول الله! هو أبو خيثمة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولى لك أبا خيثمة، فأخبره الخبر، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذاً: سبحان الله العظيم! لو أن أبا خيثمة خرج أول الأمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان في قلبه من الإيمان والأثر والخوف من الله سبحانه وتعالى، والحرص على الجهاد والرغبة فيه مثلما كان بعد أن وقع في الخلل، وغلبه الضعف البشري.
الناس ذهبوا أمة، وهو ذهب يجوب البراري والقفار وحيداً، لا رفيق له، وهو مستشعر الذنب في شدة الحر، ويركب البعير ومعه زاده وهو يذهب وأمله أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يكون شعوره وهمه وتفكيره في هذه الحالة، وهو لم يدخل العريش أبداً.
إذاًَ: قام بقلبه من حقائق الإيمان والتوبة والندم والاستغفار والحياء من الله تبارك وتعالى ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبة اللحاق به أمور عظيمة جداً، ربما بل قد نقول: نعم.
ما كانت لتأتي لو أنه ذهب من أول الأمر مع الناس.
فكان إذاً في هذا الذنب -وهو التأخر والتخلف- خير.
إذاً: رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.
المثال الآخر أيضاً: مثال أبي لبابة رضي الله تعالى عنه، وهذا حال المتقين دائماً، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:٢٠١] يعني: الشيطان يَمَس، (إن للملَك لَمَّة، وللشيطان لَمَّة) لكن ميزة أهل التقوى وأهل الإيمان أنهم إذا ألَمَّت بهم اللمَّة تذكروا فعادوا.
هذا ما حدث لـ أبي لبابة رضي الله تعالى عنه.
يقول: (لَمَّا أرسلت قريظة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يرسلني إليهم حين اشتد عليهم الحصر، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب إلى حلفائك فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس) هو كان حليفهم في الجاهلية، وأبو لبابة له منزلة، وقاتل الله اليهود في كل زمان ومكان، اليهود هم اليهود، لا تصدقوا الذي يقول: اليهود منهم الحمائم ومنهم الصقور.
بل كلهم ثعالب، لا حمائم ولا صقور، بل ثعالب خبيثة، فاليهود هم اليهود، يظنون أن جيش الإيمان والتقوى ركب المهاجرين والأنصار كغيرهم من الأمم والملوك والجيوش، فيقولون بلسان الحال: إذا كان لنا عندهم واسطة، أو لنا عليهم دالة أو حليف تغيَّر الأمر، فلنأتهم عن طريق الحليف، فأرسلوا يريدون أبا لبابة؛ لأنه حليفهم، والناس كما تعلمون حديثو عهد بالجاهلية وأحلافها وعاداتها، ولهذا لما قال عبد الله بن أبي بن سلول: إني امرؤٌ أخشى الدوائر، ثلاثمائة دارع وحاسرة، حلفائي تحصدهم في غداة واحدة، هكذا كانت الارتباطات والعلاقات الجاهلية ما تزال قريبة العهد بهم.
(قال: اذهب إليهم، قال: فدخلت عليهم وقد اشتد عليهم الحصار، فهشوا إلي وقالوا: يا أبا لبابة! نحن مواليك دون الناس كلهم قال: فقام كعب بن أسد فقال: أبا بشير! قد عرفتَ ما صنعنا في أمرك وأمر قومك يوم الحدائق، ويوم بعاث، وكل حرب كنتم فيها) يذكره بأيام الجاهلية يقول عملنا معكم الجميل، والفعائل، والآن هذا وقت الشدة، ووقت رد المعروف.
(وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد يأبى أن يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه، فلو زال عنا لحقنا بأرض الشام , أو خيبر، ولم نكثر عليه جمعاً أبداً) يقولون: يزيد أن تجعله يتركنا، ونحن نلحق بـ خيبر أو الشام، ولن يرى منا أذىً بعد اليوم.
فما ترى؟ الآن يستشيرون أبا لبابة.
(فما ترى؟ فإنا قد اخترناك على غيرك، وإن محمداً قد أبى إلا أن ننزل على حكمه قال: نعم، فانزلوا) هو قال: نعم فانزلوا؛ لأنه صحابي مؤمن، لا يمكن أن يشير عليهم بغير ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يمكن أن يخالف حكم الله، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يطلب منهم غير ما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لكن في آخر لحظة أخذته وقعة، الضعف البشري يقع حتى من هؤلاء الصحابة الأجلاء.
(قال: انزلوا على حكمه.
ثم أومأ بيده هكذا.
يعني الذبح) فهو من حيث المقال قال الحق، ونطق بالحق، وقال: انزلوا على حكمه، وهكذا يجب أن يكون الإنسان وأن يقول؛ لكن أدركه شيء من الحمية لهؤلاء؛ نظراً لقولهم: إنك حليفنا، ووثقنا فيك، وفعلنا معك، وفعلنا.
وعددوا المآثر، واليهود قوم خداعون كذابون، فوقع، فأومأ بيده، هكذا يعني: الذبح.
حسناً يا أبا لبابة! فعلت ذلك وليس أمامك إلا اليهود، فمن رآك يا أبا لبابة؟! لا أحد من الصحابة، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أهل السنة نؤمن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، هذا من العقائد القطعية، الذين يعتقدون أو يؤمنون أنه يعلم الغيب هؤلاء جعلوه إلهاً آخر، تعالى الله عما يشركون.
فما أحد يعلم يا أبا لبابة! أنت وحدك؛ لكن القضية ليست قضية وحدي أو غير ذلك، فقد استشعر الندم توَّا فنترك التعبير له.
(وقال: فندمت، واسترجعت، فقال