[حال العرب قبل الإسلام]
وبعد: فإن الله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:١٠٣].
فالله تبارك وتعالى يمتن على المؤمنين بما أنعم به عليهم، ويبين حالهم قبل أن ينزل عليهم القرآن، وقبل أن تحيا به قلوبهم وتتنور، كيف كانوا، ثم ماذا صاروا من بعد، وقد بيَّن ذلك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بيَّنه جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- عند النجاشي، وبينه المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري في أول كتاب الجزية والموادعة لما قابله رسول كسرى، وقد أوضح في ذلك وأكثر في وصفه الإمام التابعي قتادة رضي الله عنه الذي قال في تفسير هذه الآية: [[كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاهم عيشة، وأبينهم ضلالة، وأعراهم جلداً، وأجوعهم بطوناً، معكومون على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم]]، أي: كانوا محبوسين مضطهدين كأنهم على رأس حجر بين الدولتين الكبريين الأسدين: فارس في الشرق، والروم في الغرب، يقول رحمه الله: [[لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يُحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات رُدي في النار، يُؤكلون ولا يأكلون]] كانت تحكمهم الملوك المناذرة، وهم عملاء لكسرى، والغساسنة وهم عملاء لقيصر وما عداهم ضياع وشتات، القبائل متحاربة متطاحنة، شعارهم من عزّ بزّ ومن غلب فلج.
لا يعرفون الله ولا اليوم الآخر، ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، ولا ينصرون مظلوماً ولا ينجدون مكروباً، بل كان من أقوالهم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وإن لم يجد من ينهب إلا أخاه فلينهبه، كما قال قائلهم:
وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
ويقول: [[لا والله ما في بلادهم يومئذٍ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلاً يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظاً وأدق فيها شأناً منهم]]، أي: أضأل وأتفه الأمم؛ كانوا قبائل متصارعة يقول: [[حتى جاء الله -عز وجل- بالإسلام فأورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرفق، وجعلكم به ملوكاً على رقاب الناس وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا نعم ربكم، إن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك]].
وكما قيل: الشعر ديوان العرب، فكيف كانت هذه الأمة -فضلاً عن فارس والروم وما شابهها ممن يعيشون في أحط ما يمكن من الحياة قبل أن يشرق عليهم نور القرآن، وقبل أن يحييهم الله بهذا الكتاب العظيم؟ - كيف كان العرب وهم أقرب الأمم إلى الفطرة؟ ثم كيف حولهم القرآن؟ كما عبر سيد قطب رحمه الله 'أمة تنبثق من الكتاب!! ' كيف انبثقت هذه الأمة وقادت العالم بأحكام هذا الكتاب ومن الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه؟! كيف كانت أحوالهم؟ الحروب الطاحنة كحرب البسوس التي دامت بين بني ربيعة: تغلب وبكر، وتطاحنوا وتقاتلوا، حتى هلك معظمهم من أجل ناقة!! وكحرب داحس والغبراء وهما فرسان تسابقا، وللرياضة ماضٍ قديم في تفتيت الناس وفي تجهيلهم وإبعادهم عن القرآن!! فرسان تسابقا: إحداهما: داحس، والأخرى الغبراء، فتناكر صاحباهما وتجاحدا أيهما الأسبق، فتقاتلت القبيلتان قتالاً مراً حتى بادت خضراؤهم وهلك معظمهم إلى أن أصلح الله -تبارك وتعالى- فيما بينهم على يد رجلين، من اللذين خلد ذلك لهما الشاعر زهير بن أبي سلمى حين قال:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
هذا حالهم! أما السلب والنهب فحدث ولا حرج، من الذي كان يأمن من العرب أن يمشي ومعه أخته أو زوجته أو أمه، ويأمن ألا يسلبها أحد؟! فلذلك كان من عظمائهم الكبار ومن سادة غطفان وبني تميم قيس بن عاصم وأد بضع عشرة بنتاً من بناته، لماذا وأدها؟! لأن إحدى بناته سبيت، فخيرت بين السابي والأب، فاختارت سابيها على أبيها، فأقسم أبوها ألا تولد له بنت إلا ويئدها في التراب! وتعلمون حكم ذلك، عياذاً بالله! هكذا كان قادتهم وسادتهم، وهكذا كانت حياتهم: امرؤ القيس الشاعر المشهور الذي تضرب به الأمثال في القديم والحديث؛ كان عربيداً سكيراً يعاقر الخمر والفجور، كما ذكر في معلقته، فبلغه أن أباه قد قتل؛ فقال: اليوم خمر وغداً أمر.
وقال في شعره:
بنو أسد قتلوا ربهم ألا كل شيء سواه جلل
فماذا فعل؟! أراد أن يثأر لأبيه، فجاء من بلاد بني أسد من وسط الجزيرة، إلى ذي الخلصة، وهو طاغوت دوس، صنم قبيلة دوس في الجنوب ليستشيره وليستنصحه، ليقول: كيف أقاتل من قتل أبي؟ ماذا أصنع؟ كيف آخذ بثأري وَمنْ أَقْتُل في أبي؟ فلما استقسم بالأزلام فخرج الذي يكره، وبزعمه أنه نهاه الصنم أن يأخذ بثأره، فرماه، وقال:
لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا يوماً وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا
وذهب يلتمس الحل؛ من أين يلتمسه؟ ذهب يلتمسه كما نلتمسه اليوم بعد أن ابتعدنا عن حياة القرآن وعن الحياة في ظلاله، ذهب إلى الروم إلى ملوك الأرض حينئذٍ؛ ولذلك يقول:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
وقد هلك ولم ينل الملك، ولم يعذر! والقصص كثيرة عن حالهم.