[قصة الصحابي الجليل أبي خيثمة]
ومن التائبين الذين كانت ذنوبهم سبباً لتوبتهم الصحابي الجليل أبو خيثمة.
وقد نقل الإمام ابن قدامة توبته بالسند، وهو عالم مُحدِّث فقيه بارع كما هو معروف، ولذلك يورد القصص التي يوردها بالأسانيد إلى منتهى السند، سواء أكان إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم إلى أحد العلماء من المؤلفين، أو إلى كتب رواة الإسرائيليات، أو أخبار بني إسرائيل إن كان السند ينتهي إليهم.
وكان ابن قدامة رحمه الله تعالى من الأئمة المجاهدين مع صلاح الدين الأيوبي في معاركه، ومع ذلك كتب المغني الذي هو من أعظم وأنفع كتب الفقه المقارن، وغير ذلك من المؤلفات النافعة، فذكر بإسناده إلى ابن إسحاق صاحب السيرة.
يقول: تخلف أبو خيثمة أحد بني سالم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، حتى إذا سار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع أبو خيثمة ذات يوم إلى أهله.
والتخلف عن الغزو كبيرة، قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّه} [التوبة:١٢٠] فاستخدم أقوى أنواع التعبير في التحذير والنهي، فلا يصح، ولا يليق أن يتخلف أحد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يرغب بنفسه عن نفس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيذهب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الخلق وأكرمهم على الله في الحر والرمضاء والحرب وهذا في الظل الظليل مع الأهل والبنين، وهذا هو الذي وقع فيه أبو خيثمة رضي الله عنه.
فعاد إلى امرأتين له في عريشين له في حائطه -أي: في مزرعته- وقد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماءً، وهيأت له طعاماً، فالزوجة، والعريش، والماء البارد والطعام، كلها في غاية المغريات المثبطات في زمانهم، فلما دخل قام على باب العريش ينظر، وهنا اشتعل حر الذنب، ثم قال: {رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الضحي والريح والحر -والضحي: حر الشمس قال الشاعر:
ضحوت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة ناقصاً
- وأبو خيثمة في ظل، وماء بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، ما هذا بالنَّصَف!} أي ليس هذا من العدل والإنصاف، ولا يليق ذلك أبداً، ولا يحق أن يكون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك، وأن يتخلف عنه أبو خيثمة ويرغب بنفسه عن نفسه، ويتمتع ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلك الحال، قال: {والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهيئا لي زاداً، ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأدركه حين نزل تبوك، فلما رآه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راكباً من بعيد قال: كن أبا خيثمة، فذهبوا فإذا به هو، فقالوا يا رسول الله! هو أبو خيثمة فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أولى لك أبا خيثمة، ثم أخبره الخبر؛ فدعا له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}.
ولو أن أبا خيثمة خرج أول الأمر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان ليقع في قلبه من الإيمان والأثر والخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والحرص على الجهاد، والرغبة فيه مثل ما وقع بعدما غلبه الضعف البشري، وتراخى وضعف، ثم ذهب الناس، وذهب هو وحده، وتصور راكباً يذهب وحده في هذه البراري، وهو مستشعر للذنب في شدة الحر، وكل أمله أن يلحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف يكون همه وحاله وشعوره في هذه الحالة؟! إذاً قام بقلبه من حقائق الإيمان، والتوبة والندم، والاستغفار، والحياء من الله تبارك وتعالى، ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة اللحاق به أمور عظيمة جداً، فكان في هذا الذنب، وهذا التأخر، والتخلف خير له، وفعلاً: رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.