ثم ذكر الشيخ هذه الآية العظيمة، وهي قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ}[الإسراء:٥٧] وفي قراءة لـ ابن مسعود: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ تَدْعُونَ)) فيكون الخطاب فيها للكفار والمشركين لأنهم هم الذين يدعون آلهة من دون الله، والخطاب فيها بصيغة الغائب، قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}[الاسراء:٥٧] ويوضح معنى هذه الآية الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً}[الإسراء:٥٦] فهي توضح أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لهؤلاء المشركين ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يستطيعون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وهذه الأصنام والأرباب جميعاً -من حجارة أو من بشر- لا تملك رزقاً ولا أجلاً، بل لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، فهم من خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا يملكون الحياة والممات وتدبير الأمور والتقديم والتأخير والعطاء والمنع؛ بل هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد، والنتيجة دعاء خاسر:{وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}[الرعد:١٤] في الدنيا والآخرة ولكن تظهر عاقبته في الآخرة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}[البقرة:١٦٦] وتَبَرَّأَ الكبراء من الضعفاء، والرؤساء من الأتباع، وكانوا بعبادتهم كافرين، وأصبحت المودة التي كانت بينهم في الحياة الدنيا عداوة يوم القيامة، ويتلاعنون في النار كما بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أكثر من موضع، فهذا هو حالهم مع أولئك، فلا يرجى من وراء دعوتهم ودعائهم وعبادتهم إلا الخيبة والندامة والحسرة والخسران في الدنيا والآخرة، ولذلك ضرب الله تبارك وتعالى المثل للمشركين الذين يدعون غير الله، سواءً أكانوا ملائكةً أم جناً أم عباداً صالحين أم حجارةً فقال:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}[الحج:٣١] فليس له من ينقذه أو ينجيه أو يتمسك به، فهذا هو حال أولئك المشركين.
ثم جاء بهذا البرهان القاطع الجلي، وهو: أن هؤلاء القوم المدعوين والمعبودين سواءٌ أكانوا ملائكة أم جناً أم أمواتاً أم صالحين -وهذا التفسير كما فسرها عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وغيره- الذين هم مؤمنون بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كالملائكة فإنه لا شك في إيمانهم، وأيضاً مؤمنو الجن، وعباد الله الصالحون، كما جاء في الحديث عن الرجال الصالحين من قوم نوح، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فكل من كان عبداً صالحاً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه لا يجوز أن يُعُبد؛ لأنه هو يعبد الله ويتقرب إلى ربه كما تتقرب أنت إلى ربك، فكيف تعبده وحاله حالك، وافتقاره افتقارك، وذُلّة ذلك، وخضوعه خضوعك، ورجاؤه رجاؤك؟! (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة).
وهذه الوسيلة قد ضل فيها من ضل من الناس، ولو قابلت من الروافض المشركين، أو عباد القبور الصوفية في كل البلاد لقال: نحن نعتقد أن الله هو الخالق الرازق، وهؤلاء لا ينفعون ولا يضرون، وإنما نحن نذهب إلى الحسين والبدوي وندعو يا عباس، أو يا علي، أو يا حسن، أو يا حسين، ويقولون: نقصد بذلك الوسيلة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}[المائدة:٣٥] فيقول: إن الله أمرنا أن نتخذ وسيلة وواسطة إليه، أما أنتم أيها الوهابية فتنكرون كتاب الله، وتعادون أولياء الله، وتكرهون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: لا نتخذ وسيلة إلى الله، فنقول: يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}[المائدة:٣٥]، فهذه الآية تبين معنى الوسيلة وأنه وليس المقصود بالوسيلة الأشخاص والذوات، ولو كانت كذلك لما كان لهذه الآية معنى؛ لأن هؤلاء الأشخاص أو الذوات يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فهل هؤلاء الأشخاص ببتغون أشخاصاً آخرين، لا يمكن هذا؛ لأنهم هم الذين يُبْتغَون ويُعبَدون.