[التتار يحكمون بغير ما أنزل الله]
وابن كثير رحمه الله تعالى ذكر شيئاً آخر، فقال: 'وكما يحكم به التتار -ولم تكن جاءتهم المصائب التي جاءتنا ولم يأتِ نابليون ولا القوانين الوضعية- من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها'.
وفيه جزء من الشريعة الإسلامية فهي تعتبر مصدراً رئيسياً، ونستطيع أن نقول: لأنه من اليهودية والنصرانية، والنصرانية أحكامها قليلة أصلاً.
ومن أمثلة هذا المادة الأولى من القانون المدني المصري، الفقرة الثانية، تقول في معنى الكلام: يكون الحكم بما ورد في هذا القانون، فإن لم يوجد أي نص من القانون المدني على الحكم فيعمل بمقتضى العرف، فإن لم يوجد فيعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية فإن لم يوجد فبأحكام القانون الطبيعي ومبادئ العدالة.
وجاء الشارح -أيضاً- فزاد الطين بلة، فقال: إن قانوننا المدني أعطى الشريعة منزلة سامية عظيمة؛ لأنه جعلها في المرتبة الثالثة.
ويقولون: هذه فيها محاباة لأنه قدمها على مبادئ العدالة -نعوذ بالله- أما الياسق فهو مأخوذ من الإسلام واليهودية والنصرانية مباشرة، وسأذكر بعض الأحكام من الياسق، وهي مأخوذة فعلاً من الإسلام مباشرة، فالشريعة الإسلامية مصدر رئيسي في الياسق.
قال: 'وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'.
فقدموا الياسق على الكتاب والسنة مع أن الشريعة هي مصدر من المصادر.
قال: 'من فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله -أي: هذا حكم الله فيه- فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:٥٠] أي: يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠] '.
وابن كثير رحمه الله تعالى يتكلم عن واقع الأمة كما ذكر هو في تاريخه رحمه الله.
فاضطربت الأمة في شأن التتار، واختلف العلماء هل نقاتل أم لا؟ ثم قالوا: إن قاتلناهم نقاتلهم على أنهم بغاة أم على أنهم خوارج، وكيف نقاتلهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وفيهم من يصلي، وفي جيوشهم جموع من الناس تصلي، ويقولون: نحن مسلمون؟ فقالوا: كيف نقاتلهم؟ كما التبس الأمر -تقريباً- على الصحابة رضي الله عنهم سوى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قالوا: كيف نقاتلهم وهو يشهدون أن لا إله إلا الله؟ وقال بعضهم: أنؤجلهم سنةً -نعفو عنهم هذا العام من الزكاة- حتى نتألف قلوبهم؟ فاشتبه الأمر عليهم ثم أفتى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله تعالى بأن هؤلاء خارجون عن الشريعة، ويجب قتالهم، وليس قتالهم من جنس قتال الخوارج ولا البغاة، وإنما من جنس الخارجين عن الشريعة والمرتدين، كـ مسيلمة وأمثاله، كمن جحد الزكاة، فهؤلاء جحدوا حكم الله، فهم كمن جحد الزكاة، فحالهم كحال المرتدين، ثم اجتمعت الأمة على هذه الفتوى وجاهدوا، وكان من يقودهم في المقدمة هو شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله.
فهذا الحافظ ابن كثير وهو من خيرة وصفوة هؤلاء التلاميذ النجباء الذين أخرجتهم تلك المدرسة السلفية العظيمة لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، حيث كانوا كلهم هو وابن القيم والحافظ المزي رحمه الله والذهبي وغيرهم من خير رجال الأمة الذين كانوا في ذلك العصر، فجددوا الدين، وكان لهم هذا الموقف الموحد من التتار، ومن الرافضة ومن الباطنية ومن كل أعداء الدين، وأعداء العقيدة، وإن تمسحوا بها وادعوها.
فهذا الحافظ ابن كثير رحمه الله هنا يؤكد على فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية بشأن التتار، وأنهم كفار، وأنه يجب قتالهم حتى يرجعوا إلى حكم الله ورسوله: 'من فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير'.
فلا يقول: أنا عندي القانون الجزائي في العقوبات، والعقوبات كلها من الشريعة الإسلامية، ولكن القانون المدني من القانون الوضعي، ولا يجوز الحكم به لا في قليل ولا كثير، ويكون الدين كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} [البقرة:٨٥].
قال: ' {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠] أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن، وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها'.
فيقصد ابن كثير رحمه الله هنا ذكر بعض الميزات التي أوجبت علينا أن نتحاكم إلى شرع الله وهي: أولاً: العدل.
ثانياً: الحكمة، قال: 'وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها '.
لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حين شرع لنا هذا الدين وأحل ما أحل وحرم ماحرم، أرحم وأرأف بنا من الوالدة بولدها، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المعروف: {لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مائة رحمة أنزل في هذه الدنيا رحمة واحدة فيها يتراحم الناس وادخر تسعاً وتسعين رحمة عنده} فالذي يشرع وهو بهذه الرحمة لن يشّرع لهم إلا ما فيه خيرهم ومصلحتهم.
قال: 'فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء'.
أي: أن من كانت فيه هذه الصفات فهو الذي يشرع، وهذا يذكرنا بكلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، ورسالة لطيفة صغيرة ولكنها قيمة، كتبها الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل، وهو من الدعاة الذين نسأل الله أن يبارك في علمهم وفي جهدهم في الرياض، عنوانها: إن ربك حكيم عليم، وله غيرها، مثل: قل إنما أعظكم بواحدة، وذكر كيف أن مقتضى أسماء الله وصفاته تحتم انفراد الله بالحاكمية، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، والعادل في كل شيء، ولا يوجد أحد يتصف بهذه الثلاث الصفات غير الله عز وجل حتى يجوز له أن يشرع.
وعلّق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على كلمة الياسق، فقال: ' الياسق، هكذا رسمت هذه الكلمة في المخطوطتين -اللتين أطلع عليهما رحمه الله- والمطبوعة، وهي كلمة أعجمية، ولذلك اختلفت المراجع في رسمها وأصلها '.
وأنبه على أن الموجود في مجموع الفتاوى لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية أن المعلق قال: كلمة لم أتبين لفظها، أي: لم يعرفها، والكلمة هذه تكتب أحياناً الياسق، وتكتب أحياناً السياسة، وأحياناً: الياسة، وأحيانا: السياسا، وأحياناً: اليسغ.
أي: أن الكلمة الأعجمية يتصرف فيها العرب، فحيث ما وجدت هذه الألفاظ فالمقصود واحد، وهو كتاب جنكيز خان.
ويقول الشيخ أحمد شاكر نقلاً عن الحافظ ابن كثير في التاريخ (١٣/ ١١٧): 'وضع لهم السياسة التي يتحاكمون إليها ويحكمون بها وأكثرها مخالف لشرائع الله وكتبه، وهو شيء اقترحه من عند نفسه، واتبعوه في ذلك، ثم سماها بعد ذلك الياسا '.
والحافظ ابن كثير فيما نقله عن الوزير علاء الدين الجويني، سماها الياسا، قال: 'وأما كتابه الياسا، فإنه يكتب في مجلدين بخطٍ غليظ، ويحمل على بعير عندهم'.
أي: هذا دستور يعظمونه.
وقال الزبيدي في شرح القاموس "٧/ ٩٨": 'يساق -هذه كتابة أخرى على وزن كلمة- كسحاب، وربما قيل: يسق بحذف الألف، والأصل فيه: يساغ بالغين المعجمة، وربما خفف فحذف -قد تكون يسا- وربما قلب قافاً'.
ويقصد بذلك إما أن يُقال: يساغ أو يحذف الغين ويقول ياس أو يسه: 'وهي كلمة تركية '.
ويقول بعضهم: إنها مغولية، وبعضهم يقول: إنها تتارية، وبعضهم يقول: أنها تركية والكلام واحد، لأنهم يقال لهم جميعاً تركاً أو أتراكاً: 'يعبر بها عن وضع قانون المعاملة، كذلك ذكرها غير واحد، وقد حررها المقريزي في الخطط "٣/ ٣٥٧ - ٣٥٨" قال تحت عنوان: ذكر أحكام السياسة'.
وهو قانون المعاملة أو الدستور أو القانون أو الشريعة التي وضعها جنكيز خان وأخذها من اليهودية والنصرانية والشريعة الإسلامية، وركبها وجعلها شرعاً متبعاً يتحاكم إليه قومه، وقد سبق الكلام عن تاريخ وضع القوانين، وذكرنا أن هذا يعد من أقدم القوانين بالنسبة لكونه قانوناً مكتوباً، أما القوانين العرفية غير المكتوبة فهي قديمة؛ لكن هذا من أشهر ما يسمى بقوانين القرون الوسطى.