للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجدال أضراره وعلاجه]

السؤال

نحن شباب في هذا السكن، ونواجه من بعض الشباب كثرة الجدال، وتضيع كثير من الفوائد التي نحب أن نستفيد منها، نرجو منكم -أيها الشيخ- توضيح ذلك؟

الجواب

الجدل من الأمراض التي يُصاب به الناس إذا انحرفوا، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل}، والعياذ بالله.

فالضلال علامته الاختلاف والجدل والتفرق ولا بد، وهما مقترنان، لأن المختلفين لا بد أن يتجادلا، ونقصد به: الجدل المذموم، وهذا لا يحدث إلا إذا مرضت القلوب، فيضيع الوقت في أمور لا خير فيها ولا فائدة.

وأقول: إن مما يدَّخره الشيطان ويعده للقضاء على هذه النبتات الطيبة، وعلى هذا الشباب الغض الناشئ في عبادة الله عز وجل أن يلقي بينهم الخلاف والجدل حتى في الأمور العلمية، فقد يظن المتنازعان أنها مما شرع الله، وأن الغرض الوصول فيها إلى الحق، ويكون هناك هوىً خفي لم يشعروا به.

ثم إن هناك هدىً سنهُ لنا صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكم من المسائل اختلفوا فيها! وانظروا إلى نسبة الاختلاف في المسائل، وقد وقع بينهم خلاف، لكن كلما جاءت العصور، اتسعت شقة الخلاف وتوسعت، حتى وصلت الآن إلى ما ترى الحال عليه بين المسلمين، حالٌ يرثى لها، أمَّا هم فكانوا أقل الناس تكلفاً، وجدالاً؛ لأنهم قوم شُغِلُوا أولاً بأنفسهم، وشغلوا بالعمل عن الجدال، أما طلب الحق ومعرفته، وبيانه للناس، والتفاهم مع الإخوة في الله للوصول إلى الحق فلا بأس في ذلك، لكن إذا وصل للمراء وللجدال الذي هو إضاعة للوقت، وإن خُيِّل إلينا أنه حق، فلا! حتى في المسائل العلمية.

مثلاً: مسألتان فيها قولان للعلماء منذ الصحابة إلى الآن، فلم الجدال فيها؟! أنت تأخذ طرفاً، وهذا يأخذ طرفاً آخر.

وأقول: هناك مسائل قد علم فيها الخلاف وهو قديم، ولا جديد فيها، لن تأتي أنت بجديد، ولن يأتي الآخر بجديد فيها، فيكون موقفنا في مثل هذه المسائل أن كُلاَّ منا يتقي الله، ويأخذ بما يرى أنه الحق، ولا يجادل الآخر في ذلك، وإذا شُغلنا بدعوة الناس، ودعوة أنفسنا، وإلزامها بطاعة الله وبالحق الواضح الصريح الذي لا جدال فيه ولا خلاف، فوالله لن نجد وقتاً لمثل هذه الأمور أبداً.

فالجدال هو من الدعوة إلى الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥]، والمجادلة بالتي هي أحسن هي من أساليب الدعوة إلى الله، لكنه كدفع الصائل، فإذا صال عليك تقاتله، ولا تجعله أسلوب الدعوة الأول، فما بالك بالجدال الذي هو مراء مذموم لا خير فيه؟ إن هذا المراء الذي لا خير فيه، من تركه وهو محق، فهو مُبشر ببيت في الجنة، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليؤدبنا وليعلمنا ألَّا نجادل، وأن نترك المراء وإن كنا محقين، فما بالك إذا كانت شبهات وأمور مشتبهة بين متجادلين؟! ونحن -مع الأسف- في مناهجنا العلمية نؤتى العلم، ونؤتى القرآن قبل الإيمان، وهذه من أسباب هذه المشكلات، فيأتي الطالب من الثانوية -وكلنا كذلك نأتي بشهادات ثانوية- فيدخل الجامعة، فيقرأ في التفسير خلافات، ويقرأ في الفقه والحديث خلافات، وهو لم يفقه الحق بعد، ولم يعرف الأمور المجمع عليها، ولم يعرف الأساسيات واليقينيات التي ترسخ في قلبه، ويبدأ بالجدل، فلا بد أن يُؤثر ذلك على حياته.

ولهذا انظروا كيف يكون تأثير الجدال، أو الخلاف على العامة، حتى في أمور علمية هي حق! لو قلت للعامة في أيام الحج: اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في التمتع، وفي كذا، فإنه يتعجب من اختلاف الصحابة أولاً، ومن اختلافهم في الحج ثانياً، ولأنه يرى أن ذلك لا يتناسب مع مقامهم ولا مع ركنية الحج مع أن كلامك حق وواقع، لكن نحن طلبة العلم لم نعد نبالي، فلو قرأنا أن في مسألة من المسائل عشرة أقوال أو خمسة أقوال، فلن نستغرب، لأننا قد تعودنا الجدال، والخلاف، فلم يعد هذا الامر غريباً علينا.

وهذه مشكلة في الحقيقة، مشكلة من حيث تربيتنا، لأنه حتى العلماء الذين اختلفوا في المسائل، لا نتصور كما يتصور بعض العامة: أن الأئمة الأربعة كانوا جالسين مع بعض، وهذا يقول كذا، وهذا يقول كذا، وهذا يناقش الثاني؛ فهذا جهل، وليس الأمر كذلك، فأحدهم اجتهد وقال رأياً، ولم يلزم الناس به، والآخر في خراسان أو في مصر اجتهد وقال رأياً، فجاء من بعدهم وجمع الأقوال، وقال: قال الشافعي وقال مالك وقال ابن حزم فيجد نفسه في متاهة من الخلافات سبحان الله! ما هكذا كان يطرح العلم! أقول: الذي يريد أن يتعمق في العلم -ولا بد أن يتعمق وأن يجتهد ويعرف الأدلة- يجعل ذلك بعد أن يفقه الضروريات، ولهذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:٧٩]: [[الرباني هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره]]، فلا تشغل الناس بالفروع قبل أن يعرفوا الأصول الثلاثة، فتعرض عليهم خلافات شرعية، لكن خذ الناس بالأساس أولاً، فاشرح لهم معنى لا إله إلا الله، وبين لهم أحكام الصلاة الأساسية، ولا تناقش في جلسة الاستراحة وأن فيها خلافاً، فأنت ترى كيف علَّم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسيء صلاته، والذي أساء صلاته أمام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكثر المسلمين اليوم كذلك إلا ما رحم ربك.

اعرض عليه ما يقيم صلاته من الأركان والواجبات وهكذا، ثم بعد ذلك إذا تفقه وتعلم، أو جاء الوقت المناسب فأعطه الشيء الضروري بقوة وبإصرار وبوضوح، والشيء الواجب بأقل من ذلك، والشيء الذي هو من النوافل أعطه إياه بما يناسب أنه نافلة؛ لأننا إذا تجادلنا في المندوبات فلا شك أننا سننسى الأصول والأركان والضروريات.

وهذه مشكلة الشباب المتعلم الآن وهي من المشاكل التربوية، والمنهجية المهمة، ونحن نشكر للطلاب توجههم إلى طلب العلم، لكن منهج طلب العلم ليس بهذه الطريقة، وكذلك إثارة الخلافات التي تقع بين العلماء، فأحدهم يقول: ما رأيك في كلام الشيخ فلان؟ والآخر يقول: أنا مع فلان، ولست مع فلان! فمن أنا؟! ومن أنت؟! ففلان لا يزداد بكوني معه، وفلان لا ينقص بكوني لست معه، فلنتأدب مع علمائنا المعاصرين أيضاً، ولينظر الإنسان في الأدلة، وليتق الله، وليتبع ما يرى أنه الحق، ولا يجادل، ولا يلزم الآخرين إلا بأمر هو يعلم أنه سنة، وأن الآخر على بدعة، أو هو على حق، والآخر على باطل، أو من باب النصح يرى أن هذا هو الأفضل، فيبين له على سبيل النصح لا على سبيل المجادلة، وأرجو ألاَّ يُفهم هذا الكلام خطأً، فكثير من هذه الأمور المنهجية قد تفهم خطأً.