[قوة موسى عليه السلام في الحق]
أما موسى صلوات الله وسلامه عليه، فقوته في الحق حتى مع نفسه، وهكذا دائماً كل من كان قوياً في الحق وصادقاً، تجد أنه قوي وشجاع حتى مع نفسه، هكذا كان الأنبياء والرسل، والمجاهدون والصحابة والتابعون، ما كان أحد في هذه الأمة أشد هيبة من عمر رضي الله تعالى عنه، عمر إذا سلك فجاً؛ سلك الشيطان فجاً آخر، ومع ذلك ما كان يستنكف أن يقال له: أخطأت، ولا أن يتراجع عن خطأ أخطأه، وهذا من قوته وشجاعته، يتراجع ويستمع، ويقبل من يقول له ويوجهه.
ففي أي قصة من كتاب الله تظهر لنا قوة موسى صلوات الله وسلامه عليه حتى مع نفسه؟ {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:٧٦] سبحان الله! يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: (وددت أنه صبر حتى يطلعنا الله تعالى من أنبائهما) شيء عجيب، وقصص عجيبة جداً، لكن ما مرت إلا ثلاث فقط؛ لأنه لما وقعت الثانية حكم موسى صلوات الله وسلامه عليه على نفسه.
ماذا قال له في الأولى؟ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} [الكهف:٧٢] فكانت الأولى نسياناً: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:٧٣] وهكذا الكرام والمتأدبون وطلاب العلم.
وأما الثانية: ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)) [الكهف:٧٥] فرأى أنه أخطأ {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:٧٦] أنت معذور معي، ولك الحق كل الحق أن تطردني وتفارقني إن تجرأت عليك مرة ثالثة.
لكن الثالثة جوع وتعب وإجهاد، ومسافة طويلة، فقد نسي الحوت ورجع من أجل أن يأخذه؛ فقد قطع المسافات، ذهاباً وإياباً، وأصابة الجوع والجهد، ثم يأتي إلى القرية اللئيمة فيقول: يا عباد الله! أطعمونا، فيأبون أن يضيفوهم، بل ينهرونهم.
فلما رأى موسى صلوات الله وسلامه عليه هذه الحالة قال الخضر: تعال نبني هذا الجدار، ورد في بعض الروايات في الصحيح أنه قال له: قم، فقام بإذن الله، لكن الذي يرجح الروايات الأخرى أنه بناه وتعب؛ لأنه قال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:٧٧] والأجر يكون على شيء بذلت فيه جهداً، فنرجح الروايات الأخرى.
فلما انتهيا من البناء {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:٧٧] قليلاً من الدراهم غداء وعشاء، نملأ هذا الفراغ وهذا الجوع، فكان ترجياً ولم يكن اعتراضاً قوياً، ومع ذلك: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:٧٨].
انتهى الأمر، ما قال له موسى لا؛ لأنه قد قال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} [الكهف:٧٦] فكان قد حكم على نفسه، فقبل الحكم، فانظر القوة التي أعطاه الله تبارك وتعالى بالحق لذات الله ولوجه الله سبحانه وتعالى، وليست انتصاراً لحظ النفس أبداً.
حتى لما قتل القبطي: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:١٥] ما قتله لحظ نفسه، لكن استغاثه رجل من بني إسرائيل اجتمع عليه الأقباط.
فهذه قوته صلوات الله وسلامه عليه، قوة البدن والقلب واليقين، ومع هذه القوة كان له عند الله تبارك وتعالى من المنزلة والمكانة ما جعل إلقاء الألواح، وجر لحية أخيه، وعتابه لربه ليلة الإسراء والمعراج، وضربه ملك الموت، وعتابه لآدم، كل هذه لا تساوي شيئاً، ولم تكدر هذا البحر العظيم من المكارم والمناقب والفضائل والحسنات.