[ظاهرة إيثار دروس الوعظ والرقائق على دروس وحلقات العلم]
السؤال
نجد أن كثيراً من الشباب الملتزم المتمسك، لا يحضرون الدروس العلمية ولا المحاضرات العلمية المركزة، وإنما يحضرون المحاضرات التي تعتمد على الرقائق غالباً، كما يحضرون المحاضرات للمشهورين من العلماء، فما نصيحتكم لهؤلاء؟
الجواب
قد يترك العالم الجليل المشهور الذي نتمنى أن يتاح لنا أن نجلس معه ساعة، ويترك حضور حلقة علم، ويحضر عند وعاظ أو أصحاب رقائق، هذه ليست ظاهرة جديدة بل هي ظاهرة قديمة؛ فقد كان بعض الوعاظ يجلس عنده عشرون ألفاً، وإن كان ليس في روايته ذكر صحيح وضعيف وربما اختلطت مواعظه بالأحاديث الموضوعة حتى هجرت أحاديث القصاص؛ لأن القاص غالباً مع العاطفة والتذكير ربما يأتي بحديث وليس بصحيح، ويقول: قال الله ولم يقل الله ذلك، همه العبرة أكثر من الصحة أو الضعف.
فالمقصود أن هذه المشكلة قديمة، وإقبال الناس على المواعظ والرقائق قديم، بل حتى على الأشعار، فـ الصوفية عندها ذكر الأشعار أو سماع الأناشيد، أفضل من سماع القرآن؛ لأن الأشعار والنغمات تحرك القلوب والعاطفة، فمن الممكن أن تزيد العاطفة بغناء من يغني شوقاً إلى ليلى ولبنى الخ، لأن الفاصل بين العاطفة والنفس دقيق جداً؛ لكن الفاصل الواضح الكبير هو ما يتعلق بالعلم وبالعقل الذي يعتبر الجانب الواعي في الإنسان، فهذا الذي تكون فيه الأمور دائماً واضحة، والقصد أن العاطفة تتأثر وتستجيب للمؤثرات العاطفية، وخاصة أنها لا تكلف شيئاً.
أما حضور حلقات العلم المشهورة، كما يحصل في شهر رمضان يأتي الرجل إلى الحلقة، ويبدأ الشيخ في اليوم الأول في الصيام وأحكامه وأنواعه، ويدخل في الكفارة، وكيف اختلف العلماء، فيخرج من المحاضرة وهو ما استفاد أي شيء؛ لأن مشكلتنا أنه ليس عندنا صبر ولا جلد على العلم، وكأنه يكلفنا ما لا نطيق.
وإذا لم تضبط لديه المسألة يأتي إلى الشيخ فيقول: ارجع إلى كتاب كذا رقم كذا؛ فيقول الشاب: مراجع! كتب! وأذهب لأشتري الكتاب وأقرأه! هذه مشكلة! فيبدأ يحب الأشرطة؛ لأنها سهلة، ويستطيع أن يضعها في السيارة، ويستمع لها إذا ركب السيارة وذهب إلى عمله، لكن الكتاب يحتاج إلى فهم وتركيز وتعليق فيكرهه.
ولا أعني ترك ذلك على الإطلاق بل بالعكس، أنا أقول: إن المواعظ يجب أن تنشر بأكبر وأقصى حد عند العامة، لكن الموعظة الحقة، لا خيالات، ولا منامات، ولا أقاصيص كاذبة فيها، بل المواعظ السليمة، والرقائق الصحيحة وهي كثيرة -والحمد لله- والله إن فيها الفائدة، فالقصص النبوي والقصص القرآني كثيرة وفيها الدروس والعبر، فنريد أن نعرضها على العامة، ونريد أن يكون فينا من يجيد أن يعرضها على العامة بأجمل أسلوب من حيث الأداء ومن حيث الإثارة الخطابية.
أما طالب العلم، فينبغي أن يُصبِّر نفسه ليتعلم -مثلاً- مسألة من مسائل العقيدة، أو من مسائل العلم، ثم يفهمها ويعيدها، ثم يوصلها إلى غيره فإن لم يحصل هذا فربما بعد فترة من الزمن نتحول كلنا إلى عوام، ويبرز فينا مجموعة من الوعاظ يعظون والباقي عوام يسمعون، وهذه مشكلة فالأمة لا تقاد إلا بالعلماء، ولا يحركها إلا العلماء.
شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله لما غزا التتار الشام، وقف فأفتى بفتواه المشهورة فتحركت الأمة للجهاد بها، تحركت على علم وجُمعت قلوب الناس على علم، لأنها مبنية على قال الله وقال رسول الله، فهذا هو الذي نريده وإن كان شاقاً.
فأنا مع الأخ في كونه قد يُترك العلماء المشهورون، فيكون الحضور عندهم أقل من العشر مما يحضر للوعاظ والقصاص، فهذه ظاهرة سيئة وخطيرة، ويجب أن نقاومها؛ مع أني قلت أن لكل إنسان فائدته في مجاله، لكن لسنا أنفع من العلماء، ولا أنفع من أن نقول: قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويأتيك بالأدلة التفصيلية التي تعطيك حجة علمية، كما بعث الله الرسل -رضوان الله عليهم- بالحجة، فأقول: إقامة الحجة العلمية لا تكون إلا بذلك.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يكتب لي ولكم أجر هذا اللقاء، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا شقياً ولا محروماً، وأن يأجر خيراً القائمين عليه، وأن يثيبنا ويثيبهم جميعاً بحسن الثواب، والحمد لله رب العالمين، وصلِ اللهم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.