[الاعتراض على حكمة الله وقدره]
من أنواع الاعتراض الاعتراض على حكمة الله، وعلى قدر الله، وعلى أفعال الله تبارك وتعالى.
وهذا قديم ومنتشر بين الناس - إلا من وفقه الله للرضا ولحقيقة الرضا- وأكثر المعترضين كفارٌ وهم الذين اعترضوا على أصل الدين، وأصل القدر، وأصل الاختيار، وقدوتهم في ذلك إبليس اللعين، الذي اعترض على أمر الله تبارك وتعالى له بالسجود لآدم، فجعل ما أمره الله به مخالفاً ومنافياً للحكمة، لأنه يرى أن النار أفضل من الطين: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢]، فيرى أن عنصر النار أفضل، فمعنى قوله: إن من الحكمة أن يسجد الطين للنار وليس العكس! وكثير من الناس يقعون في هذا وفيما هو أشد منه وهم يعلمون أو لا يعلمون، وبهذا طرده الله من رحمته، وجعل عليه لعنته إلى يوم الدين، وأصبح رأس الكفر في الدنيا، والمشركون تعلموا منه هذا النوع، فاعترضوا على أن يكون الرسول بشر: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:٤٧]، وفي الآية الأخرى {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس:١٥].
فهم يريدون أن يكون الرسول المرسل إليهم ملكاً، أما إذا كان رجلاً فلا، والله تعالى له الحكمة العظيمة في ذلك {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:٩]، حتى تكون القدوة، وتكون الأسوة، فيكون هذا بشر، وهذا بشر، فلو كان ملكاً في الحقيقة لجعلناه بشراً في الصورة، حتى يكون من جنسهم، ويخاطبهم، ليقتدوا به وهو من جنسهم، أما لو جاءهم ملك لقالوا: أنت ملك، تصلي لأنك ملك أما نحن فبشر لا نستطيع، وإن تترك الشهوات فلأنك ملك، أما نحن فبشر فلا نترك الشهوات والمحرمات وهكذا.
فيعترضون على حكمته وقدره، ولهذا يقول الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:٦٨]، فيبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه ليس لهم أن يختاروا أن يكون الرسول بشراً، أو ملكاً، أو أن تكون الرسالة في رجل دون الآخر كما حكي عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١].
فاعترضوا على عدم جعل الله تبارك وتعالى هذه النبوة وهذا الوحي وهذا الذكر ينزل على عروة بن مسعود، أو الوليد بن المغيرة، على رجل من القريتين - مكة والطائف - أما أن ينزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس عنده أموال، أو وجاهة في قريش، أو عنده عبيد وجواري، ولا كذا، فاعترضوا على حكمته؛ ولهذا يقول الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٢]، فالمعيشة الدنيوية هذه يقسمها الله تبارك وتعالى بين خلقه {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:٢٠]، أما النبوة، وأما الرحمة فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يحق لكم أن تعترضوا على اختيار الله تعالى، وتقولوا لو أنه اختار فلاناً، ولو أنه نبَّأ فلاناً لآمنا به، أما وقد نبَّأ فلاناً فلا! كما اعترضوا على الأتباع: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:١١١]، كما قال قوم نوح، وقريش قالوا للنبي: 'اطرد هؤلاء الضعفاء لنجالسك نحن عظماء القوم، ونسمع منك، أما أن نجلس معهم، ونتأذى بروائحهم، فنحن لا يليق بنا ذلك' وهذا من اعتراضهم على أتباعه وأتباع دينه، لذا نهاه ربه عن ذلك فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:٥٢]، فهؤلاء الذين يرجون وجه الله، هم خير عند الله تبارك وتعالى وهم أفضل من أولئك، ولكن الله تعالى جعل بعضهم لبعض فتنة وهو أعلم بالشاكرين، فجعل إيمان الضعفاء فتنة؛ لكي لا يؤمن الكبراء وهذا من حكمة الله عز وجل.
كما اعترضوا حتى على القرآن، فقالوا: لو أنه نزل جملة واحدة، فهم لا يريدونه أن ينزل بحسب الأحداث، ومنجماً بحسب الوقائع، بل يريدونه أن ينزل جملة واحدة، فرد الله تبارك وتعالى على هذا الاعتراض، وبين أن الحكمة من ذلك التثبيت، ولكي لا يأتوا بمثلٍ إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيراً، وهناك أنواع كثيرة من أنواع الاعتراض التي اعترض بها الجاهلون والمشركون.
وأيضاً قد اعترض المنافقون، الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، فهم يعترضون دائماً على أوامر الله، فأصحاب الشهوات في كل مكان، وفي كل زمان، لا بد أن يعترضوا على دين الله، ولا يرضيهم ذلك، فلذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط}.
فهذه عبوديته: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، وهذا ما فعله المنافقون، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:٥٨].
فترى المنافق وأصحاب الشهوات إذا تحققت شهواتهم ورغباتهم، قالوا: أحسنت وهذا حكم طيب، وأنت حقاً رسول الله، وإن كان قاضياً فحكم له قالوا: هذا القاضي يقضي بالحق: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:٤٩]، فإن حكم لخصمه وكان هو المبطل، وحكم القاضي بالحق قال: هذا مخطئ، أو مرتشٍ، أو كذاب، فأهم شيء عندهم أن يكون تبع لأهوائهم، وليس تبعاً للحق، فإذا كان لهم الحق وعلموا أن الحكم سيكون لهم، جاءوا وقالوا: لا نريد أن يحكم بيننا إلا رسول الله، أما في وقتنا الحالي فيقولون: نريد صاحب دين، وإيمان، وتقى حتى يحكم بيننا؛ لأنه يثق بأن البينات التي عنده ستجعل الحكم له؛ لكنه لو كان في الحالة الأولى يقول: لا نريد فلاناً، كما قال المجرمون من قبل: نذهب إلى كاهن جهينة أو إلى كعب بن الأشرف: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:٦٠]، فقالوا: لا نذهب إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل نذهب إلى كعب لأنه يأخذ الرشوة.
كما أن كثيراً منهم يعترضون على قدر الله، إن أعطاهم الله ووسع عليهم وأنعم عليهم، فيقولون: أكرمنا الله وأعطانا الله، وربكم لا يعطي إلا من يحب، وجعلوا ذلك دليلاً وعلامة على أن الله يحبهم، وأن أعمالهم صالحة وطيبة، ونسبوا ما يأتيهم من مال إلى عبادتهم، وإخلاصهم، وصدقاتهم، ونفقاتهم، وما علموا أنه استدراج! وأما إذا قدَّر عليهم أرزاقهم، وضيق عليهم، أو منعهم وإن كان بعد عطاءٍ، أو إذا أمرضهم وإن كان بعد شفاء وعافية قالوا: {رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:١٦] قالوا: كيف تعذبني؟! ماذا فعلت؟! وماذا صنعت؟ أو لماذا فعلت كذا ولم تفعل كذا؟! فيعترضون.
وأكثر ما يعترض الخلق قديماً وحديثاً على أقدار الله عز وجل، ويظن أنه غير أهل لأن يبتليه الله بمصيبة، أو بفقد مال، أو بفقد حبيب، لأنه يرى أنه من أهل الصلاح والدين، ولو كان هذا في الفجار، أو في غيره من الذين يفعلون ما يفعلون لكان هذا أحق بهم وأجدر! ولا يعلمون أن الله تبارك وتعالى يبتلي بالخير والشر، وأن الله عز وجل يمتحن من ينعم عليه ليرى أيشكر أم يكفر ويمتحن من يأتيه بما لا يرضى به ليرى الله أيصبر أم يجزع ويقنط، ومن هنا لا بد من الرضا بأقدار الله تبارك وتعالى كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه.