[قصة البغي مع الكلب]
(وقريبٌ من هذا ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب، وقد اشتد به العطش يأكل الثرى).
القلوب لها مفاتيح، وسبحان الحي القيوم الذي خلقها هكذا، بعض القلوب لا تأتي من باب الصلاة ولا الصوم، تأتي من باب الشفقة والرحمة، مهمل في صلاته وطاعة ربه، لكن لو قلت له: هناك فقير انكسر خاطره، وسعى إلى جبره، وهذا باب من أبواب الخير يُفتح له.
إذاً: أنت أيها الداعية! ادخله من هذا الباب؛ حتى يدخل إلى المسجد وإلى الصلاة والصيام والحج، والأساس هذا الباب، لا يوجد مانع، المهم أنك تعرف مفتاح القلب من أين.
ولهذا من غفلة بعض الدعاة -وليس هذا من منهج النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته أبداً- أن له موقفاً واحداً، كلما جاءك واحد قال له: أنت ليس فيك خير، صل واتق الله.
فلو كانت الدعوة هكذا لكانت سهلة، نحفظها أي واحد، أو نسجلها في شريط ويقولها لكل شخص، لكن الدعوة ليست هكذا، عليك أن تعرف أساليب الدعوة إلى الله، فهذا رجل نأتيه من جانب العرض والغيرة.
رجل غيور يقاتل حتى لا يرى أحد امرأته أو أخته، لكنه في الصلاة والعبادة مضيع، فتدخل إليه من باب الغيرة، فقل له: يا فلان! أنت ما شاء الله غيور، هذه الغيرة يا أخي من الإيمان، ولهذا ما رأيك أن تخرج من بيتك هذا المنكر؟ وهكذا تتدرج معه حتى يوفق الله بهداه.
وهناك أناس تأتي إليهم من باب الإنفاق، وأناس من باب الشجاعة، فتقول له: أنت لا تقدر أن تقول كلمة الحق، هل أنت خائف؟ قل لفلان، وأنكر عليه، والله ما قدر أحد أن يكلمه، فاذهب أنت وكلمه.
فيقول: أنا أقدر أكلمه من يكون وماذا يكون؟! فيذهب يكلمه، فهذا تدخل عليه من باب الشجاعة؛ فكيتب الله الأجر، وهكذا وهذا ما فعله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأمثاله، فالداعية الحكيم ينظر إلى أحوال الناس، فلكل قلب مفتاح، أما الخطاب العام فلا ينفع في ذلك.
فهذه بغي، وهناك فرق بين امرأة زنت وبين امرأة بغي، فمعنى بغي أنها محترفة وممتهنة لهذه الحرفة الدنيئة الدنسة التي تترفع عنها الحيوانات.
وأشنع من ذلك فعل قوم لوط، لا يفعله الحيوان، فضلاً عن أنك تجد حيواناً يحترف ذلك، إلا الإنسان إذا انحط وسفل عن دين الله، وكرامة الله التي أكرمه بها، وهي التمسك بالتقوى وبالطاعة.
هذه البغي رأت كلباً اشتد به العطش حتى أصبح يأكل الثرى، فقام بقلبها وازع الرحمة، مع عدم الآلة -فلم يكن عندها دلو- وعدم المعين -ليس عندها أحد يعينها- وعدم من ترائيه بعملها.
وهذا ليس ولد فلان، بل هذا كلب لا يفهم ولا يمكن أن تمن عليه، فهذه صفات مبررات للقبول بإذن الله: ليس لها معين، ولا عندها آلة، ولا يوجد من ترائي أمامه أوتمن عليه، بل هو كلب لو مات لا أحد يسأل عنه، ولا يعبأ به.
فحملها وازع الرحمة في قلبها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، فلو انفك الخيط أو الشجرة التي تمسك بجذعها، أو وضعت قدمها على حجر ضعيف، فإنها ستموت، فيقولون: ماتت من أجل الكلب، لكن حقائق الإيمان إذا قامت في القلوب لا تبالي، وهذا هو المعنى الحقيقي لقول المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
النفوس الكبيرة هي التي عرفت قيمة الجنة، وأن سلعة الله غالية، وأنها لا تشترى بالضعف والمهانة والاستكانة، وإنما تشترى بقول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالقيام مقام الأنبياء، هكذا فليكن من أراد طريق الجنة.
فنزلت البغي وملأت الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها لخفها بفيها، والواحد منا لا يضع خفه أو شرابه في فمه، لكن كل هذه المعاني ذهبت؛ لأن أمامها هدف؛ لما قام في قلبها داعي الخشية والرحمة والشفقة نسيت كل هذه الاعتبارات، فحملت خفها بفيها حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، من غير أن ترجو منه جزاءً ولا شكراً، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء؛ فغفر لها.
فانظر حالها وحال الأخرى التي رآها النبي صلوات الله وسلامه عليه في قصة كسوف الشمس، وأخبرهم صلوات الله وسلامه عليه: أنه رأى الجنة ورأى النار، ورأى في النار امرأة تعذب في هرة، لا هي أطعمتها ولا هي أطلقتها؛ حتى تأكل من خشاش الأرض هذه في النار تعذب، وهذه مع البغاء والزنا، وامتهان هذه الحرفة الخبيثة غفر لها.
إذاً: القضية ليست مجرد أن هذا أذنب أو هذا لم يذنب، كل ابن آدم خطّاء، ولكن يجب عليك أيها العبد الصالح دائماً إذا أخطأت أو أذنبت أن تستحضر التوبة والندم، والانكسار والحياء من الله سبحانه وتعالى، ومراقبة الله حتى تعلم أن هذا الفعل بسبب أن الله أو كلك إلى نفسك، فإذا قامت هذه الحقائق بقلبك؛ فإن هذا الذنب يكون بداية خير كثير.