[أهواء المدرسة العصرية]
وهذا قد فرح به أدعياء المدرسة العصرية، وهذه مدرسة كما قال فيها العلماء: 'من تتبع رخص العلماء تزندق'.
وذلك لأنه سيأخذ من هنا ومن هنا فتصبح النتيجة لا شيء -نسأل الله العفو والعافية- فلما وجد بعض دعاة الاتجاه العصري والإسلام الحديث المرن الذي يحترم الأمريكان، قالوا: هذا هو الإسلام، فلا بد أن نجعل المسلم والكافر سواء -النفس بالنفس- وقالوا: لسنا مبتدعة لمجرد أننا نعظم الغرب أو الأمريكان بمأخذنا هذا فهو مذهب قديم للإمام أبي حنيفة، وهو أحد الأئمة الأربعة، وهذا قول معتبر، وهو أوفق مع العدالة الإنسانية، ويتفق مع حقوق الإنسان، وحتى لا يتهمنا الغرب أننا ضد حقوق الإنسان؛ فنجعل الإنسان المسلم فوق الكافر.
وهم لا يأخذون بكل ما قاله الإمام أبو حنيفة لكن بهذه المسألة فقط, وهم لا يأخذون بها لأن الدليل هو الذي رجحها، لأنهم لو أخذوا بها ترجيحاً للدليل فتكون المسألة من باب الاجتهاد الخاطئ، لكنهم يرجحونها بمقتضى العصر.
قال الشيخ الغزالي -هدانا الله وإياه- بمعنى كلامه في جريدة المسلمون: لو أن فلاحاً مسلماً أو راعي غنم قتل خبيراً أمريكياً، كيف تكون النسبة؟ ونحن نقول: لو أن عبداً مسلماً قتل رئيس أكبر دولة كافرة في العالم فإننا لا نقتل المسلم بالكافر، فهذا دين الله عز وجل والذي لا يجوز أن يُحكم بغيره، ولا يصار إلا إليه, وكونه يقتله ظلماً لا يعني ذلك الدعوة إلى الظلم، أو أننا نقر الظلم أو إزهاق النفس بغير حق, لكن المقصود هو أن شرع الله ودين الله في هذه الحالة ليس هو القصاص، وإنما الدية، وديّة الكتابي -أيضاً- غير دية المسلم، وهم يريدون أن يجعلوا الدية واحدة والقصاص واحد، فالمسألة ليست أن {المسلمين تتكافأ دماؤهم} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هم يريدون أن يقولوا: إن الناس جميعاً تتكافأ دماؤهم، ويقولون: إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن ْذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:١٣] فالمسألة الكلية المطلقة جاء بها القرآن قبل حقوق الإنسان، فنكون قد سبقنا الغرب إلى ذلك.
نقول: لا, الآية صريحة في المقصود، لأن قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:١٣] المراد بها التفاخر، فالله تعالى نهى عن مجرد التفاخر بالأنساب الذي هو من شأن أهل الجاهلية، وجعل التفاخر هو بالتقوى، والشعوب والقبائل معللة: {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:١٣] فنعرف أن هذا من قريش -مثلاً- وهذا من هذيل، وهذا من حرب وهذا من جهينة، فهو للتعارف، أما أن يستنبط أن الناس سواسية مسلمهم وكافرهم فهو استدلال بعيد.
ثم بعد أن ذكر الكلام في العبد، وأن السلف لم يكونوا يقيدون العبد من الحر، ثم ذكر حديثاً يستشهد به على ما قاله من نقل الإجماع على ذلك، أي: على أن شرع من قبلنا شرع لنا، بالحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم رضي الله تعالى عنهم أجمعين من حديث أنس بن مالك: {أن الربيِّع عمة أنس كسرت ثنية جارية، فطلبوا إلى القوم العفو فأبوا، فأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: القصاص} فحكم أول الأمر بالقصاص، وهذا الحكم هو المذكور في الآية، فشرعُ من قبلنا شرع لنا؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بذلك، وليس مجرد أنه ذكر مقرراً, وفي نهاية القصة أن أخاها أنس رضي الله تعالىعنه قال: {يا رسول الله! تكسر ثنية فلانة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أنس، كتاب الله القصاص, فقال: لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنية فلانة} فأقسم أنها لا تكسر، وليس المقصود الاعتراض على حكم الله، لكن يقول: ذلك لن يقع، مهما بذلنا ومهما حاولنا إن شاء الله لن تكسر، قال: {فرضي القوم، فعفوا وتركوا القصاص؛ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} , وهذه كرامة عظيمة.
ثم ذكر حديثاً آخر فيه إشكال كما قال رحمه الله: 'عن عمران بن حصين: {أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: يا رسول الله، إنّا أناس فقراء، فلم يجعل عليه شيئاً} , وكذا رواه النسائي وإسناده قوي, وهو حديث مشكل!! اللهم إلا أن يقال: إن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو استعفاهم عنه'.
فالإشكال هو: كيف أسقط النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القود عن الغلام، وأسقط الدية بالفقر؟ وفي الحقيقة ليس هناك إشكال؛ لأن الذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أنهم فعلاً عفو عنه فلم يطلبوا القصاص أصلاً، وإنما كانوا يريدون الأرش أو الدية، فطلب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل الجاني الفقير، فقالوا: ليس لدينا شيء فأسقطه؛ لأنهم كانوا قد تنازلوا عن القصاص، فأمر القصاص قد قضي، وبقي الأرش فلا يوجد عندهم شيء فاستعفاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعفوا، وإلا لو أصروا على الأرش؛ فإن الدية تلزم ولو ديناً وتظل في ذمته، أو يتحملها عنه شخص آخر أو غير ذلك، لكن كونه يسقط عنه ذلك؛ فهذا دليل على أنهم قد قبلوا وعفوا، أو كما قال: لعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعفاهم أو تحمل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك, وهو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا ولي كل مؤمن}.
ثم ذكر بعد ذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ} [المائدة:٤٥] الأحاديث التي وردت في فضل العفو عما وقع له من جروح، من حديث أبي الدرداء وعبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم فبعضها أسانيده صحيحة، وبعضها رجح الشيخ أنه موقوف، فهذه تدل على ما نصت عليه الآية أن الإنسان إذا ظُلم فَضُرب أو اعتدي عليه فكان به ما يستدعي القصاص من الجراحات أو أي عضو من الأعضاء فتصدق به فهو كفارة له، وهذا من فضل الله تعالى ومن جملة ما أعد الله تعالى للعافين عن الناس، قال: {إلا كان كفارة له}.
ومن حرص الشارع الحكيم على أن الأصل بين المسلمين هو العفو، وتقرير هذا الأصل، فالعفو محبب ومندوب إليه، وأجره عظيم، وفضله كبير في هذا الموضوع، وفي غيره: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:١٣٤] وهؤلاء من أثنى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم، وهم من أهل الجنة.