طوبى لعبد شغلته عيوبه عن عيوب الناس! فلهذا قال قائلهم: 'إني لأرى أثر معصيتي -أو ذنبي- في خلق امرأتي ودابتي' سبحان الله! فهؤلاء يرون أثر المعاصي؛ لأن القوم لمَّا قلت ذنوبهم علموا من أين أتوا؟ ولذلك لو وقعت لواحد منهم مثل هذه الأمور: إما إعراض، وإما ظلم، وإما مشكلة، وإما فرية، وإما بهتان, فإنه يعلم من أين أُتي, فيقول: هذا بسبب ذلك ويعرفه, لكن الذي يجني ويحصد الذنوب ليل نهار, ووقعت له نازلة, فإنه لا يدري من أين أُتي؛ لا يدري: هل هي من الغيبة؟ أم من النميمة؟ أم من تضييع الصلوات، أم من هجر كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أم من أكل الحرام؟! أم من التعلق بالدنيا والغفلة عن الآخرة؟! فهو لا يدري من أين أتي، لكن الذي يعلم أنه ما أخطأ إلا تلك الخطيئة، وما أذنب إلا ذلك الذنب يعلم من أين أتي, فيتوب ويستغفر, فيكون قد أقفل هذا الباب, فيلقى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقد غسل هذا القلب من الأدران والخطايا.
يقول موسى بن إسماعيل وهو من تلاميذ أحد العلماء المشهورين وهو حماد بن سلمة رضي الله تعالى عنه قال: 'لو قلت لكم إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكاً قط صدقتم -أي: لو قلت لكم ذلك ما أكذِّبُكم فما رأيته ضاحكاً قط قال:- كان مشغولاً بنفسه إما أن يحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لأنه كان من الرواة المشهورين كما هو معلوم -وإما أن يقرأ القرآن أو يقرأ العلم النافع, وإما أن يسبح، وإما أن يصلي'، كان قد قسم النهار بين هذه الأعمال؛ إن ترك القراءة فهو للصلاة, وإن انفلت من الصلاة فهو للتسبيح, وإن انتهى من التسبيح فللحديث وللعلم؛ فكل حياتهم هكذا إن كانوا في الجهاد، فجهاد ومنازلة كأقوى ما يكون الرجال، وإن انصرفوا من الجهاد فللحج والعمرة والصيام وقراءة القرآن، وإن خرجوا من المسجد, وقد أدوا الصلاة, فللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإن دخلوا بيت أحد, فللزيارة في الله وللدعوة والنصيحة والتذكير بالله، وإن قرأوا ففيما ينفعهم, وإن تكلموا فبما يؤجرون عليه؛ فهؤلاء كانوا يعيشون قوله تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[الإسراء:٣٦].