[تحريم الظلم على الخالق والمخلوق]
يقول الله تبارك وتعالى في أول هذا الحديث: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا}.
وهذه الرواية رواية الإمام مسلم رحمه الله وهي أتم من غيرها، فأول العشرة النداءات هو هذا النداء وبهذا اللفظ: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي}، فالله تبارك وتعالى هو الذي حرم الظلم على نفسه، وإلا فإنه عز وجل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولن يكون ظالماً -تبارك وتعالى- ولو فعل بخلقه ما فعل؛ وهو الخالق والرازق والمنعم والمدبر والمتصرف في ملكه كما يشاء، ومع ذلك فإنه فضلاً منه تبارك وتعالى، حرم الظلم على نفسه، وكتب على نفسه الرحمة، كما أخبر تبارك وتعالى في الذكر الحكيم.
فإذا كان القوي العزيز الجبار المتكبر، القادر على كل شيء، الخالق المالك لكل شيء حرم الظلم على نفسه، فكيف يظلم العبد أخاه العبد؟ وكيف يتظالم العباد؟! {فلا تظالموا}، هذا مع أن الله تبارك وتعالى، لا يجب عليه حقٌ لأحد، بل هو كما قال الشاعر رحمه الله:
ما للعباد عليه حقٌ واجبٌ كلا ولا سعيٌ لديه ضائعُ
إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسعُ
فهو إن عذب الخلق، فلا يعذبهم إلا عدلاً، وإن رحمهم فلا يرحمهم إلا فضلاً منه عز وجل وتكرماً، ولهذا جاءت هذه النداءات -وكلها تخاطب الإنسان الضعيف العاجز- من الله من الرب الرحيم، الودود سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
{يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا} فكيف يتظالم المخلوقون؟! وكيف يظلم بعض الناس بعضاً؟! والله تبارك وتعالى قال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} [يونس:٤٤]، وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} [غافر:٣١]، فهو عز وجل لا يريد الظلم ولا يحبه، وقد حرمه على نفسه فلن يريده ولن يقبله من أحدٍ أبداً.
بل هو كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {إن الله يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته}، وقال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:١٨٣].
لكن الله إذا أخذ الظالم لم يفلته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:١٠٢].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الظلم ظلمات يوم القيامة} كما صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {المسلم أخو المسلم لا يظلمه} فالمسلم لا يظلم أحداً من الناس، بل ولو كانت دابةً من الدواب، فوضع الشيء في غير موضعه، هو: الظلم، وكل وضع للشيء في غير موضعه فالله تبارك وتعالى منزه عنه.
كما يجب على العباد أن يتركوا ذلك الظلم، فديننا هو دين العدل في كل شيء، حتى الحذاء: {نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينتعل الرجل في إحدى رجليه ويدع الأخرى}، لأنه دين العدل في كل شيء.
فمن الفوائد المأخوذة من هذا الحديث: أن ديننا دين العدل، حتى بين أرجلك فتعدل بينهما، فإما أن تنتعل فيهما معاً، وإما أن تكونا حافيتين معاً، فلا ظلم ولا إجحاف.
ولقد بعث الله -تبارك وتعالى- محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والدنيا شرقاً وغرباً تعج بالمظالم، وبالعنصرية وبالطبقية وباستعباد خلق الله -تبارك وتعالى- فكما كان فرعون ظالماً كان كذلك فراعنة الفرس والروم، فيجعلون أقوامهم شيعاً ويستضعفون طوائف منهم.
فجاء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدين العدل والحق والهدى، فتعلمت الإنسانية جميعاً كيف تعدل من هذا الدين، وعلمت لأول مرة في تاريخها لا كلاماً وحِكماًَ يقولها الفلاسفة، ويرددها الحكماء، بل رأت العدل واقعاً يسير أمامها، ويملأ شرق الدنيا وغربها، وذلك لأنهم عرفوا مما عرفوا مثل هذا النداء الرباني الكريم: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا}.