[المحبة الشرعية]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: معنى المحبة في اللغة معروف، وهي في الشرع: أمر زائد على مجرد الميل الطبيعي للمحبوب؛ فمحبة الله تعالى، ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة المؤمنين، ومحبة ما شرع الله من الدين، هي أمر زائد على مجرد الميل الطبيعي إلى شيء من ذلك؛ إذ لا بد فيها من جانب اختياري تكليفي.
وباصطلاحاتنا المعاصرة أقول: إن المحبة الشرعية ليست مجرد عاطفة متعلقة بالوجدان وحده، وإنما هي متعلقة بالوجدان والعاطفة، والعقل والإرداة، والعمل: عمل القلب، وعمل الجوارح؛ إذ أنها جزء مهم من الإيمان.
والإيمان عند أهل السنة والجماعة كما هو معلوم للجميع قول وعمل، أي: قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، كما هو مبين في مواضعه.
وعلى هذا فمن ظن أن محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي مجرد الميل الطبيعي والوجداني له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو غالط غلطاً بيناً؛ لأن هذا الظن هو الذي أوقع طوائف من الأمة في التفريط في اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك سنته، ونبذ شريعته، وترك تحكيمه، وترك التأدب معه، وأوقعهم في التقديم بين يدي هديه وحكمه، هذا مع تعلقهم العاطفي بذاته، وتغنيهم بشمائله، وإعجابهم بكماله، وربما بكائهم لتذكره، ولهجهم بالصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك من قال: إن معنى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي طاعته، وامتثال أمره، والتمسك بسنته، فهو مقصر عن إصابة كبد الحقيقة في هذا، إذ أن هذا هو تفسير لها باللازم والمقتضى.
فالطاعة والامتثال هو لازم المحبة ومقتضاها لا حقيقتها، ومعناها والتحقيق في ذلك: أنها أمر زائد على ذلك يجمع ويشمل ما ذكرنا آنفاً، فالمحبة بهذا الاعتبار أمر عظيم من أمور الإيمان.
وقد بين ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله تعالى، يقول 'إذا كان الحب أصل كل عمل من حقٍ أو باطل، وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها، وأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله، فالعملان القلبيان العظيمان إذاً هما المحبة والتصديق، المحبة هي أصل جميع الأعمال والتصديق هو أصل جميع الأقوال الإيمانية'.
ويقول رحمه الله في موضع آخر: 'أصل الإيمان العملي هو حب الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحب الله هو أصل التوحيد العملي وهو أصل التأليه الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن العبادة أصلها أكمل أنواع المحبة مع أكمل أنواع الخضوع وهذا هو الإسلام'.
وقال: 'أصل الإشراك العملي في الله الإشراك في المحبة، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:١٦٥].
' وكما هو معلوم أن تأليه الله تبارك وتعالى أو الشهادة بأنه لا إله إلا الله، قيل: إنها مشتقة من الأله أو من الوله، فالأله هو: العبادة، كما في الآية {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:١٢٧] وأما إن كان من الوله فالمقصود بالوله هو: درجة عليا من درجات المحبة، وهي تعلق القلب بهذا المألوه الذي هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، المعبود وحده لا شريك له.
ومن هنا وقع شرك المشركين حين أحبوا غير الله، وتعلقت قلوبهم به، ونتج عن ذلك أن دعوهم واستغاثوا بهم وعبدوهم من دون الله سبحانه، وصرفوا لهم الحق الخالص لله عز وجل، وهذا المعنى الواسع العميق للمحبة عند أهل السنة والجماعة هو الذي يميز محبتهم عن المحبة العاطفية الهائمة، التي يدَّعيها الصوفية دون أي أساس من الشرع.
وهذه المحبة التي يدعونها هي شحنه عاطفية يمكن أن تفرغ بقصيدة من الشعر أو حفلة أو ذكر أو حضرة، أو بأي نوع من أنواع المتفرغات العاطفية وينتهي مفعولها، بخلافها عند أهل السنة والجماعة؛ حيث تشمل عمل القلب وعمل الجوارح التي ترتبط بعمل القلب، فيكون المحب في هذه الحالة مطيعاً وذاكراً ومتعلق القلب بالمحبوب.
وأما المحبة الصوفية أو المحبة البدعية الهائمة، فهي تلك المحبة التي عبَّر عنها السلف الصالح بأنها زندقة، حيث قالوا: 'من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن' وهذا هو القول الصحيح، وقد عبَّر عن هذه المحبة الزنديقية تصديقاً لهذا القول القديم المأثور الشاعر الصوفي المشهور ابن عربي حين قال قاتله الله:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعىً لغزلان، وديراً لرهبان
وبيتاً لأوثان، وكعبةَ طائف وألواحَ توراةٍ، ومصحفَ قرآن
أدينُ بدينِ الحبِّ أَنَّى تَوَجَهَت رَكَائِبُه فَالحُبُّ ديني وإيماني
فلما أصبحت المحبة بهذا المعنى، وأصبحت محبة الله ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي هذا الهيام العاطفي الذي لا يحده ضابط ولا قيد؛ وقعت الأمة أو الطوائف التي اعتنقت هذه المحبة في الغلو العظيم، على ما سوف نوضحه -إن شاء الله- في الفقرة المناسبة له، وخرج بذلك عن حد المحبة الشرعية، وحقيقتها، وما ذلك إلا لجهلهم لهذه المحبة التي شرعها الله والتي لا يقبل الله تبارك وتعالى إلا هي.