[الإمدادات التي تمد القلب]
جدير بنا أن نعلم ونعرف ما هي الإمدادات التي تمد القلب، واللسان بهذا؛ لأن اللسان يُعبر عما في القلب، بمعنى: أن الإنسان يتكلم في نفسه ثم يتكلم بلسانه.
إذاً فالمدد أو أصل المادة التي تمد القلب إن كانت خيراً ومثمرة ونافعة في صالح الإنسان؛ فإن ذلك يظهر على فلتات لسانه، ويظهر من أقواله؛ وإن كان غير ذلك -ونسأل الله العفو العافية- فلا بد أن يظهر الخبث من كلامه.
إذاً: كيف يمد اللسان القلب؟ إن الإنسان الذي يتكلم بالخير - كأن يقرأ كلام الله وكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو كلام الصحابة والتابعين، وأهل الدعوة والإيمان والخير والصلاح - لا بد أن يظهر ذلك في كلامه هو؛ لأن القلب تغذَّى بهذا الخير، فيظهر أثر هذا الغذاء ثمرة على اللسان فتنطق بالخير، وينطق بالحكمة.
ولهذا تجدون حُفاظ كتاب الله حتى ولو كانوا صغار السن -سبحان الله- ينطقون بكلام درر، لأنه من خلال معايشته للقرآن.
فإذا اقتبسنا من ذلك التوجيه والتسديد الذي كان عليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون وسلف الأمة؛ رأيت العجب العجاب! إذاً: إذا أردت أن أقول الخير وأعتقده وأتكلم به فعليَّ أن أجعل المادة التي تمده خيراً فإذا قرأ الإنسان اللهو واللغط -فضلاً عن الحرام- لكن اللهو أكثر ما يُنشر الآن، وكل ما يقرؤه الناس غثاءً ولهواً؛ فلا بد أن يظهر على لسانه؛ فتكون أحاديثه لهواً ولغطاً ولا تثمر، وإذا اختلطت المادتان ظهر هذا وهذا؛ فتجد من الذي يخلط أنك تسمع منه الخير وتسمع منه اللغو، وهكذا؛ لكن المؤمن يعلم أن كل لفظ يلفظ به فهو مكتوب، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يحاسبه.
حتى إن بعض السلف رضي الله عنهم جاءته ابنته -طفلة- تقول له: يا أبتاه! أريد أن ألعب.
فأعرض عنها!! فقالت: يا أبتاه! أريد أن ألعب.
فأعرض عنها! وكان عنده أحد العلماء -من جلسائه ورفقائه- فقال له: قل لها: العبي.
فقال: لا أريد أن أجد في صحيفتي لعباً؛ لأنه ما يلفظ من قول إلا ويكتب، فلو قال لها: العبي؛ لكتب عليه ذلك.
نعم! أناس كان عندهم هذه الحساسية، فتراه يُفكر في الكلمة لأنه سيلقاها مكتوبة، ماذا تكون؟ وأما نحن الآن فقلوبنا وأمتنا لاعبة، قطاعاتنا لاعبة؛ بل الآلاف المؤلفة من الأمة في لعب؛ فكم هو العمر؟ سبحان الله العظيم كيف يغتر الإنسان بهذه الحياة ويظن أن فيها فسحة لأن يلعب ويلهو، وأيضاً يعبد الله ويشيد ويبني! ولو فكَّر العاقل في هذه الحياة! لوجد أنه لا يوجد فيها متسع لعاقل أن يلهو عن ذكر الله حتى وهو في الطريق.
فلو أن الإنسان وهو ماشٍ في الطريق استغفر الله وحمده وأثنى عليه لكان ذلك خيراً كثيراً؛ لأن السنة -مثلاً- ثلاثمائة وأربعة وستون يوماً، واليوم مثل الدقيقة، والأسبوع مثل اليوم، والشهر مثل الأسبوع، والسنة مثل الشهر، فكل واحد عليه أن يحسب ذلك، فإن كان ممن كتب له الحياة فوصل إلى الستين أو تجاوزها إلى السبعين - وهذا قليل وخاصة في هذا الزمن - وإن كان في الثلاثين، أو الأربعين؛ فمعنى هذا أنه بقي في عمره عشرون أو ثلاثون سنة، فإن هذه كلها ستمر كلمح البصر.
فالحياة ليس فيها متسع حتى الخميس والجمعة لهو؛ فهذا تفرجة ولهو ولعب، وهذا جلوس مع اللاهين واللاعبين.
وأما اللعب في القرآن والسنة فإنه يشمل ما هو أعم من اللعب الذي نعيشه الآن، كما قال الله تعالى: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:٩٨] أي: يلعبون ويلهون، حتى في تجارتهم التي تلهي عن ذكر الله، كما ذكر الله سبحانه في آخر سورة الجمعة {تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:١١] ومعروف سبب نزولها.
فالمشكلة أننا الآن نعيش لعباً حقيقياً في كل مجال كالذين يلعبون الكرة، ويتفرجون في الألعاب، فانشغلنا عن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وشغلنا أنفسنا بهذا الضياع، أي ضياع الأوقات-؛ وهذا أبعد ما يكون عن المؤمن الذي يخاف الله ويتقيه؛ ولهذا فالشاهد هنا أنه يظهر على هذا اللسان، مما يكسب الناس منه، فمن لم يفعل ذلك -أي: القول السديد- تفوته مغفرة الذنوب وصلاح الأعمال، ومن فاته ذلك؛ فماذا يريد؟! وما فائدة وجوده في هذه الحياة الدنيا إذا لم تصلح أعماله ولم تغفر ذنوبه؟!! نسأل الله تبارك وتعالى العفو والعافية فما فائدته؟ وما قيمته؟ وماذا يرجو؟! متاع كمتاع البهائم ثم يضطر بعد ذلك إلى عذاب أليم والعياذ بالله! ما القيمة إذاً؟ إن الغرض هو أن يتفكر الإنسان ذلك، فهذه الآية وكم من آيات في كتاب الله سبحانه تدلنا على أمر عظيم كهذا الأمر، وهذه هي الوصية الأولى.