للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ميزان التعامل مع المخالف]

ثم يقول: 'فكيف إذا كان المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ ' أي: أن هذا الميزان لما فقد، وقال الله تعالى: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:٨ - ٩].

فقد حصل الضلال عند المسلمين من جهتين -كما ذكر رحمه الله- طائفة من جهة الإفراط، وطائفة من جهة التفريط.

أما التي من جهة التفريط وهي أكثر المسلمين -مع الأسف- فإنهم يزكون ويشهدون للإنسان بالخير أياً كان، حتى وإن لم يصل، بل يقال: {ما أظرفه، ما أجلده، ما أعقله، وليس في قلبه مثقال حبة من إيمان!} وتهاونوا في هذا الأمر، حتى إنهم قد يعدّون بعض المرتدين والمجرمين من المؤمنين المتقين، وهذا الحال الذي غلب على أكثر الناس -نسأل الله العفو والعافية- وهذا لا يجوز؛ لأن الميزان يجب أن يكون بما شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

والطائفة الأخرى: التي أخذت بجهة الإفراط والغلو، وهؤلاء يأتي منهم البغي، ويأتي منهم العدوان والظلم.

وأهل السنة والجماعة بريئون من هذا وهذا، ومنهجهم ومذهبهم وتعاملهم دائماً هو بالقسط، فلهذا لو آذاهم من آذاهم، وبما يؤاذيهم به، ولو وصل الأمر إلى أن يقتلهم فإنهم لا يظلمونه، ولا ينكرون حقاً أو فضلاً له، ولا يغمطونه خيراً عنده، ومثال ذلك الحجاج حيث كان نائباً لبني أمية، وقد قتل من أهل السنة سعيد بن جبير، وقتل من القرّاء من قتل، فهل أنكر وجحد أهل السنة له أنه أرسل الجيوش وفتح البلاد، وأدخل في دين الله عز وجل أمماً كثيرة؟ وهل أنكروا له أنه لما مات لم يخلف إلا مصحفاً وبضعة دراهم، وأنه لم يكن يأخذ من بيت المال شيئاً؟ فلم ينكروا أي فضيلة من فضائله ولم تغمط، بل تذكر هذه، وتذكر هذه.

وهذه كتب السنة، وكتب الرجال، وكتب التاريخ التي كتبها أهل السنة -والحمد لله- ميزان صحيح لا يحيف ولا يجور أبداً، وبالعكس لو أن منافقاً داهن أهل السنة وولاهم ومكنهم، فسيعلنون أنه منافق، أو أنه مظهر للفجور أو البدعة، فهم يقولون ما فيه.

فالشاهد أن تعامل أهل السنة يكون بحسب النص، وكما أمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولولا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر أهل السنة بالصلاة خلف البر والفاجر، أو على البر والفاجر، والغزو والجهاد مع البر والفاجر لفعلوا كما فعلت المعتزلة والخوارج فتركوا من أجرم وهكذا.

سواء في ذلك أئمة الحكم، أو أئمة الصلاة وغير ذلك، ولو أنه يجوز لهم أن يداهنوا مع ظهور الكفر والردة والانحراف لكان الله تعالى أجاز لهم ذلك، فهو أرحم بهم من أنفسهم ولداهنوا كما يداهن غيرهم، لكنهم إنما يزنون الأمور بميزان الشرع.

ولهذا لما أوذوا في أيام المأمون لم يداهنوا، بل أوذوا وسجنوا وعذبوا لأن المخالفة للسنة واضحة، ولم يرضوا أن تنتهك هذه العقيدة بذلك الشكل، ومع ذلك مواقفهم في الصبر على الأذى مشهودة ومعلومة -والحمد لله- ولم تخرجهم عن منهجهم في التمسك بالنص، والحكم بالميزان والقسط.