[أحوال الحاكم المسلم الذي حكم بغير ما أنزل الله]
قال: 'والأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها، بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكن حكم بها هوىً، ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة'.
أما بالنسبة للمغفرة فإن تاب وإلا فهو تحت المشيئة: 'وإما أن يكون حكم بها متأولاً حكماً خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار ببعض الكتاب وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم'.
فهذا الحاكم قد يقول: أصنع منفعة للمسلمين، فخالف في قضية معينة، وهو ملتزم بشرع الله، ويدين به، ويعلم أنه الشرع ولا غيره، فإما أنه جاهل، والجاهل له أحكام، وإما أن يكون صاحب هوى ومعصية، فهذه من الكبائر.
وإما أن يكون حكم بغير ما أنزل الله متأولاً، ففهم الدليل فهماً غير صحيح، أو تأول على قول من أقوال العلماء.
والمهم أنه يحكم في محكمة لا تحكم إلا بما أنزل الله، وفي ظل سلطان لا يحكم ولا يأمر الناس إلا بما أنزل الله، لكن خالف في مسألة، فليس كل القضاة معصومين، بل القضاة يخطئون وهم في محاكم شرعية، ويحكمون بالشرع، فهذا الخطأ لا يخرج عن ثلاث حالات: أولاً: إما جاهل: اعترف عنده شخص أنه شرب الخمر، وأقرّ بذلك، فقال: ليس عليك شيء، لماذا؟ قال: قد يكون معذوراً، أو مكرهاً، أو جاهلاً، وقد يكون رجع عن الإقرار، كما يفعل بعض الناس، فهذا يكون حكمه حكم الجاهل الذي لم يمحص الشروط والأدلة.
أو حاكم ترك حد السرقة فلم يقمه على أحد، جهلاً منه بالنصاب أو نسي أو لم يعرف.
والجهل صوره كثيرة، وبعض الناس قد يستغرب: كيف يجهل الحاكم هذا؟! وكيف يخفى عليه هذا؟! وفي الحقيقة عندما تقرأ عن بعض الصحابة، فإنك تجد أموراً خفيت عليهم، فتتعجب منها، وتقول: كيف يجهلونها، فمثلاً: عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، كان لا يرى القراءة في الصلاة السرية، وهذا في صحيح البخاري، فتقول: هل يُعقل أن ابن عباس، وهو حبر الأمة، لا يدري أن القراءة واجبة في الصلاة السرية، وغيرها أشياء كثيرة، قد يستغرب الإنسان منها، وأيضاً قد يخفى عليه بعض الأحكام، وقد لا تبلغ هذا الحاكم.
والمقصود أن -خفاء الحكم بمعنى أعم- باب الجهل، وهذا يقع من القضاة حتى في عصر النبوة، وفي عصر الخلافة الراشدة.
ثانياً: أن يحكم هوىً ومعصية.
مثلاً: يكون هذا السكران ولد عمه أو قريبه، أو يعمل في مكان قد يخدمه منه، فيقول: لو أقمنا عليه الحد سوف تكون فضيحة، وأهله يقولون له: لم نجد من منفعة إلا أنك تطبق الحد على ابن عمنا، وهذه سوف تفشل القبيلة كلها، ولا بد تحكم أنه بريء، وهذه الحوادث تقع، بل وكثيراً ما تقع هذه، فيبرئه، ويقول: ليس عليه شيء.
والثالث: المتأول.
أي: هو عنده دليل لكنه فهمه على غير وجهه، فهو ليس كالجاهل؛ لأنه يخالف الجاهل من جهة أن الأول خفي عليه الحكم، أما هذا فعنده دليل لكنه فهمه على غير وجهه، مثلما تأول الصحابة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة:٩٣].
فرجل مؤمن تقي، ماذا عليه إذا شرب الخمر؟ إذا ليس عليه جناح، مع أن هذه الآية لا تصلح دليلاً، لكنه تأولها كما يتأول بعض الناس؛ وقد ذكرنا بعض التأويلات أنها قد تكون باطلة أو صريحة، فبعض الناس -مثلاً- يريد أن يرد عليك، فيقول لك: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣].
إذاً: نساوى في الحدود بين الإماء وبين الحرائر -مثلاً- في الجلد؟ فيقول لك: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣] فهذا تأول، والحقيقة: أن الدليل غير ذلك.
ويُتصور -أيضاً- أن التأول وارد في أحكام كثيرة، ولولا الجهل والخطأ والتأول؛ لم تكن أحكام الفقه مملوءة بالترجيح، وبيان الخطأ، والشذوذ؛ وهذا حاصل لأنها موجودة.
أما المعصية فهي ملء الأرض؛ والناس يخالفون أمر الله في أشياء كثيرة.
إذاً: هذه الأحوال الثلاثة.
قال: 'وأما أن يكون في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكمٌ حكم بقاء في أمر جاحداً لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثراً لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام؛ فذلك لم يكن قط'.
فهذا لم يقع ولم يحصل، والخوارج لم يسألوا عنه، وأبو مجلز لم يُجب عنه، وهذه الصورة غير واردة، فصورة أن شخصاً يحكم بحكم أو بقضاء غير كتاب الله، جاحداً لما أنزل الله، مؤثراً لأحكام أهل الكفر، ثم يقول: أنت يا أبا مجلز أو غيرك ليس لكم علاقة في الموضوع، وهذا القانون الذي حكمتُ به أخذناه من الفقه الروماني، لأنه من فقه هذه الأمة المتحضرة الراقية، فهذه الصورة لا يشك أحد في كفر هذا الحاكم أبداًَ لا في زمن أبي مجلز أو غيره.
ولو قال شخص: هذا من أحكام الدول المتقدمة، ونحن أخذناه من الدول المتطورة.
قالوا عنه الناس: جزاه الله خيراً، هذا يريد يطور البلد، ويريد أن يتقدم البلد، فالفرق ليس في عمله هو، بل الفرق في نظرة الناس إليه، لأنهم جهلوا دينهم.
قال: 'فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه'.
أي: لا ينصرف إلى هذه الحالة -حالة الجحود- أبداً، فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما مثل قول ابن عباس وطاوس ومجاهد: كفر دون كفر، من احتج بها في غير بابها، وقال: كفر دون كفر، مثل من يأتي بالقانون الوضعي ويقيمه ويطبقه، ويقول: هذا كفر دون كفر، قال: 'فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها، رغبة في نصرة السلطان'.
وهذا أحد الأسباب، وهو نصرة السلطان على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله، وفرضه على عباده، مثل من يقول: إن الحكومة إنما أرادت المصلحة، والله تعالى إنما أنزل الدين لغرض المصلحة، فالمصلحة تتحقق بهذا القانون، وهذا القانون مأخوذ كثير منه من الفقه المالكي؛ لأن الفقه المالكي كان في الأندلس، ولما قُضي على المسلمين في الأندلس دخل الفقه المالكي إلى فرنسا، ثم جاء نابليون وأخذ من الفقه الفرنسي، وكثير منه مالكي، وهكذا حتى يتوصل إلى أن الحكم بغير ما أنزل الله سائغ.
يقول الشيخ شاكر: 'فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله' أي: أن الذي قصده نصرة السلطان أو قصده الاحتيال على شرع الله: 'وحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله، أن يستتاب؛ فإن أصر وكابر وجحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين' انتهى كلامه.
يقول: إن هذا النوع وهذا الصنف من الناس يجب أن يستتاب وأن تقام عليه الحجة، وإن لم يتب وأصر على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله، فحكم من يصر على جحد حكم الله، وإحلال غيره محله، معروف أو معلوم عند أهل هذا الدين، وهو أنه قد خرج من الملة نسأل الله العفو والعافية.