وهذا هو حال الخوارج، نسأل الله العفو والعافية! فإنهم ضيقوا على أنفسهم، وأخذوا من الدين جانب الرهبة والخوف والترهيب والإشفاق والحذر، وقد تقع شبهتهم لبعض العُبَّاد وإن لم يكونوا على مذهب الخوارج، كعُبَّاد البصرة وغيرهم ممن ذكرهم في كتاب حلية الأولياء أو صفوة الصفوة، حيث كان بعضهم يغلو غلواً شديداً في الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مما يؤدي إلى اليأس من رحمة الله.
وهذا النوع دخل فيهم أهل التصوف حتى أفسدوا عليهم عبادتهم!! وهذه من الحكم التربوية العظيمة، وهي أن الإنسان إذا غلا في الخوف والرهبة، فإنه قد يؤدي به ذلك إلى الوقوع فيما هرب منه، وحتى يعلم الناس أن الحق مع السنة التي لا غلو فيها ولا جفاء، كما قال الحسن -رحمه الله- في أهل السنة:[[إن أهل السنة لم يذهبوا مع أهل الغلو في غلوهم، ولا مع أهل الترف في ترفهم، وإنما هم وسط بين ذلك]].
فلو رأيت إنساناً مشدداً على نفسه وعلى أتباعه في أمور كثيرة، بحيث يجعل المستحبات واجبات والمكروهات محرمات، فاعلم أنه سيقع في استحلال المحرمات؛ لأن من خرج عن المنهج الصحيح في تهذيب النفس وتقويمها، فإنه لا بد وأن يقع في ضده، فـ الخوارج أول ما ابتدءوا، ابتدءوا بهذا الغلو الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحاديث صحيحة متواترة حيث قال:{تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم} وبعد ذلك جاءهم أناس فناقشوهم، وقالوا لهم: هذه سورة يوسف ذكر فيها العشق، وذكر فيها أن امرأة العزيز راودت نبياً من الأنبياء، وغلقت الأبواب، فقالوا: هذه ليست من القرآن! فكفرت طائفة منهم بسورة يوسف.
ومن كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كُلَّه، وكَفَّروا الصحابة الكرام، وكانوا بذلك كفاراً، وأدى بهم الغلو إلى أنهم كانوا يقعون فيما كانوا ينفرون منه، كاغتيابهم الصحابة، بل واستحلوا دماءهم، فقتلوا عبد الله بن خبيب وبقروا بطن جاريته، وهو ابن الصحابي الجليل خبيب بن عدي، ثم وجدوا نصرانياً في الطريق فقالوا: لا تخفروا ذمة نبيكم!.
ووجد أحدهم تمرة سقطت من نخلة فأخذها، وذهب إلى الأمير وقال: هل يجوز أن نأكلها؟ ففكر وقال: قد تكون من نخل الخراج أو من نخل الصدقة، قد تكون لا، لا، اتركها، فهذا الغلو شر، فالمقصود أن من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري.