[هل التخيير في الحكم بين الكفار منسوخ]
وهنا مسألة وهي: هل في الآيات نسخ أو فيها تخيير؟ ومتى يجب أن نحكم بين غير المسلمين، ومتى نكون مخيرين؟ قال: 'فروى ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس قال: [[كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخيراً، إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم]] '.
وآية التخيير هي قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:٤٢] لكن نجده يقول في آية أخرى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:٤٨] فهل آية الأمر بأن نحكم بينهم ناسخة والتخيير منسوخ؟ نقول: لا، لا بد أن نحكم بينهم -العرب والعجم والذميين والحربيين والمستأمنين كلهم نحكم بينهم- بما أنزل الله، ولا تخيير لنا بأن نحكم أو نعرض، فهذا قول.
وبعض العلماء قال: لا يوجد نسخ، وقد ذكر الشيخ هنا بعض التفاصيل، ولكن يهمنا هنا كلام الأئمة.
فمثلاً كلام الشافعي رحمه الله في الجزية من كتاب الأم: 'ولا خيار له إذا تحاكموا إليه -أي: لا خيار للإمام المسلم- لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] '.
فـ الشافعي يرد قول من قال: أن التخيير منسوخ.
وقال: 'وهذا من أصلح الاحتجاجات؛ لأنه إذا كان معنى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] أي: تجري عليهم أحكام المسلمين وجب ألا يردوا إلى أحكامهم، فإذا وجب هذا فالآية منسوخة'.
ومعنى هذا القول: أن أهل الذمة لا نردهم إلى أحكامهم؛ لأن آية التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِر} [التوبة:٢٩] إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} [التوبة:٢٩] متأخرة، وآية المائدة في التخيير كانت قبل ذلك، وعندما نفرض عليهم الجزية؛ فإننا نأخذها عن يدٍ وهم صاغرون، فإذا كان من يعطي الجزية بطواعية ورضا يأتي إلينا يدفعها وهو صاغر.
واختلف في معنى صاغر: هل يلبس الذمي ثوباً معيناً ويقف في ذل وتكون يده هي السفلى ويد الآخذ هي العليا أو أن المقصود أن يضرب عليهم الصغار؟ ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة بعض من خالف في هل ضرب الجزية من باب العوض والأجرة لسكنى دار الإسلام أو هو من باب الذل والصغار؟ والصحيح أنه من باب الذل والصغار، وكذلك ضرب الأحكام عليهم.
وفي العصر الحديث أتوا بدعوة جديدة، قالوا: هذا مقابل -كما يسمونه في القوانين الوضعية- بدل عسكري، فقالوا: المسلمون يدفعون الزكاة ويجاهدون، والنصارى واليهود لا يدفعون الزكاة ولا يجاهدون مع المسلمين فيدفع الذمي الجزية بدلاً، وإن كان بعض الكلام له نوع من التوجيه لكن في الحقيقة هي من باب الإذلال والصغار.
إذاً: لسنا مخيرين، فيجب علينا أن نذلهم، وأن نرغمهم على أن يدفعوا الجزية، وأن نجري عليهم أحكام الإسلام إذلالاً وإصغاراً لهم، وإلا كيف إذا زنا المسلم أقمنا عليه الحد، وإذا زنا الكتابي فنحن مخيرون؟! هذا لا يمكن، ونقل البيهقي عن الشافعي رحمه الله قوله: 'ليس للإمام الخيار في أحد من المعاهدين الذين يجري عليهم الحكم إذا جاءه في حد الله، وعليه أن يقيمه، واحتج بقول الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] قال: فكان الصغار -والله أعلم- أن يجري عليهم حكم الإسلام ' قال الشيخ: 'وقد رد أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن قول من ذهب إلى النسخ، فقال: وهذه دعوى عريضة، فإن شروط النسخ أربعة، منها: معرفة التأريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر، وهذا مجهول من هاتين الآيتين، فامتنع أن يُدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى، وبقي الأمر على حاله'.
ولهذا قال الشيخ: 'وهذا كلام ملقىً على عواهنه غير محرر' والإشكال هو أننا قررنا أن سورة المائدة نزلت كاملة محكمة، فإن كانت نزلت دفعة واحدة، فكيف نقول: هذه الآية متأخرة وهذه الآية متقدمة، وإن كانت موجودة في الترتيب في المصحف؛ لأن عندنا بعض الأحكام تكون الآية المتقدمة فيها هي الآية الناسخة، وتكون الآية المتأخرة هي المنسوخة على الأقل على قول، وهنا في سورة المائدة: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:٤٩] لكن قوله تبارك وتعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:٤٢].
إذاً: المتوقع أنا نقول: إن الناسخ هي الآية (٤٩) وقد نسخت الآية (٤٢) لكن القضية إذا قلنا: إن السورة نزلت دفعة واحدة فليس فيها نسخ، وهذا أحد الأوجه التي ترجح أنه لا نسخ.
وقال الشيخ أحمد شاكر: 'وأما الطبري فإنه أبى القول بالنسخ -قال: لا نسخ بين الآيتين- مستنداً إلى القاعدة الأصولية الصحيحة، وهي: أنه لا يصار إلى القول بالنسخ إلا إذا تعارضت الآيتان تعارضاً تاماً بحيث لا يمكن الجمع بينهما'.
هذا هو الصحيح، وإذا لم يمكن الجمع فنحمل كل آية على محمل، ولذلك قال بعض العلماء: لا نسخ في القرآن مطلقاً، وكل ما قيل: إنه نسخ خرّجه على أنه إما تخصيص للعام أو تقييد للمطلق أو بيان للمجمل إلخ.
فهذا أحد الأقوال لكن الصحيح: أن النسخ قائم لكن ليس كما يتصوره البعض بكثرة كاثرة؛ لأنه يوجد سر في معنى كلمة نسخ، ولو عرفنا هذا السر انتهى الإشكال.
فالنسخ عند السلف من الصحابة والتابعين يطلق على أمور كثيرة، فليس خاصاً عندهم برفع الحكم كليةً، بل إذا رفع جزءاً من الحكم أو عموم الحكم عدُّوا ذلك نسخاً، وإذا بين ما كان مجملاً أو قيد ما كان مطلقاً عدّوا ذلك نسخاً، وهو فعلاً رفع للحكم؛ لكنه رفع جزئي.
أما المتأخرون عندما ضبطوا وأصلوا، قالوا: كلمة النسخ لا تطلق إلا على ما كان رفعاً كلياً للحكم وإحلال حكم آخر محله، وهذا لا بأس به ولا مشاحة في الاصطلاح، فلا نعترض على المصطلح، لكن نقول: إذا فُهم مصطلح النسخ وفهم في كلام غيرهم تبين أنه لا معارضة -إن شاء الله- ولا إشكال في هذا.
فإذاً ما نفاه الحافظ الطبري رحمه الله حيث يقول: لا نسخ، أي: بالمفهوم المتأخر، لكن الحافظ على فضله وإمامته في التفسير والعربية، إلا أنه جمع بينهما فتأول الآية تأول المتأخرة، بما يجعلها توافق الأولى، بأن قال: أنت مخير احكم أو أعرض فإذا اخترت أن تحكم فاحكم بينهم بما أنزل الله، فحمل الآية الأخيرة على الأولى، وهذا فيه فائدة تدلك على أن كل إمام له ملحظ، فيقول الطبري: إنه حتى وهم أهل الكتاب مع تحريفهم وظلمهم وجورهم ومع إفكهم وافترائهم إذا اخترت -والخطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لأي قاضٍ مسلم بعده- أن تحكم بينهم فاحكم بينهم بما أنزل الله.
فيقول الشيخ أحمد شاكر -وكلامه وجيه هنا-: 'ومن المفهوم بداهةً: أن هذا الجمع يكاد يجعل الأمر بالحكم بينهم في الآيتين تكراراً، فقط لما مضى في الآية [٤٣]-آية التخيير- لأن نصها: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:٤٢] '.
فإذا قلنا: إنه قال بعد ذلك: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:٤٩] ولاشك أن الحكم بما أنزل الله هو الحكم بالقسط، إذاً تكون الآية وليس هناك فائدة، ولا جديد في هذا الكلام، فهي مجرد مؤكدة.
لكن يقول الشيخ أحمد شاكر: 'الوجه الصحيح في فهم هذه الآيات والجمع بينها، وفي فهم حديث ابن عباس رضي الله عنه بالنسخ: أن آية التخيير إنما هي في القوم الذين جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكمونه بينهم في شأن الزانيين وفي شأن الديات، وهم قوم من يهود، لم يكونوا ذميين ولا معاهدين، أعني: لم يكونوا في سلطان الدولة الإسلامية ولا خاضعين لأحكامها، بل قدموا إلى الحاكم الأعلى في الدولة الإسلامية، يجعلونه حكماً بينهم في بعض شأنهم، وكانوا مستطيعين أن يحكموا بأنفسهم في شأنهم، بحكم دينهم أو بأهوائهم، كعادتهم في سائر ما يعرض لديهم من الأقضية، فإذا جاؤا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكمونه في بعض ما عرض لهم، أعلمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن له الخيار أن يحكم بينهم فيما حكّموه فيه أو أن يعرض عنهم'.
فعندنا أهل الكتاب نوعان: نوع خاضع للدولة الإسلامية، فهو ذمي يعيش في أرض الإسلام، كمن يعيش في بلاد الشام أو مصر أو الأندلس من النصارى واليهود.
والآخر لا يخضع لأحكام الإسلام، وإنما جاء يتحاكم إلينا، وهو يعيش -مثلاً- في فرنسا أو أمريكا أو أي مكان نحوهما، فجاءوا يترافعون إلينا، وطلبوا أن نحكم بينهم، لكن قد يشكل عليه موضوع الزانيين اللذين كانا في المدينة.
لكن قد يُقال: إن هذا كان قبل أن يشمل حكم الإسلام جميعهم.
أو نقول: إن هذا الحكم هو المقرر الآن بغض النظر عما جرى في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعمل بالآيتين جميعاً دون أن يلزم من ذلك معرفة المتقدم والمتأخر أو النسخ من غيره فنقول: إن أهل الكتاب إن ترافعوا إلينا فنحن مخيرون في الحكم بينهم، أما إذا كانوا ذميين خاضعين لحكم الدولة الإسلامية، فهذا نحكم فيه بحكم الله وجوباً.
أما أهل الكتاب الذين لا يخضعون لحكم الدولة الإسلامية فنحن مخيرون أن نحكم بينهم بما أنزل الله، أو أن نقول: لا شأن لنا فيكم ولا إثم علينا لأن شرعكم عندكم، ونطالبكم بأن تؤمنوا وأن تسلموا ثم نحكم بينكم، ويخرج على هذا اح