للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مراتب الدين بالنسبة لتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم]

يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين حول هذه الآية: ' إن هذه الآية اشتملت على مراتب الدين الثلاث، فالدين مراتب ثلاث كما جاء في حديث جبريل عليه السلام' أي: إن هذه الآية بالنسبة لتحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاتباع هديه جاءت على مراتب الدين الثلاث، فمقام الإسلام هو مقام التحكيم، فمن لم يحكم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس بمسلم.

فإذا حكَّم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان في صدره ضيق وحرج ولم يسلم تسليماً فهذا ليس بمؤمن، فبتحكيمه للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج بذلك عن أن يكون كافراً، ولكنه لم يدخل في عداد المؤمنين؛ لأنه لم ينتف الحرج والضيق من صدره لحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والله تبارك وتعالى إنما أثنى في القرآن ووعد بالجنة لمن اتصف بمرتبة الإيمان، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} [المؤمنون:١] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:١٥]، وقال جل شأنه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:١ - ٣] وغير ذلك من الآيات.

فانتفاء الحرج هو المقام الثاني، وهو مقام الإيمان.

والمقام الثالث: هو مقام الإحسان؛ فإذا حكَّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن في نفسه حرج، وسلَّم بذلك كمال التسليم فهذا قد بلغ الغاية العظمى، وهي مقام الإحسان.

ومن حكَّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن في نفسه حرج من حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكنه لم يبلغ الغاية العظمى في ذلك وهو أنه لم يُسلم كمال التسليم، فهذا مسلمٌ مؤمنٌ وليس بمحسنٍ؛ لعدم حصول كمال التسليم منه.

فهذه الآية اشتملت على هذه المراتب الثلاث، والشاهد هو: أن من لم يُحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم فليس بمسلم.

ثم يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: 'وتأمل ما في الآية الأولى وهي قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:٥٩] كيف ذكر النكرة وهي قوله: (شيء) في سياق الشرط، وهو قوله جل شأنه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُم) المفيد للعموم، فيما يتصور التنازع فيه جنساً وقدراً '.

أي: في أي جنس من أجناس التنازع، وفي أي قدر، وفي أي أمر كان كبيراً أو صغيراً، فيدخل في ذلك كل خلاف ونزاع، سواء في أسماء الله وصفاته، أو في الإيمان، أو في أمور العقيدة، أو الأحكام الفقهية، أوفي الحقوق والدماء والأموال والأعراض وكل شيء.

قال: ' ثم تأمّل كيف جعل ذلك شرطاً في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [النساء:٥٩] '.

وكلمة (شيء) هي أعمّ كلمة في اللغة كما يقول اللغويون، لأنها تطلق على الكبير والصغير، فكلها يمكن أن تُطلق عليه.

وهي هنا عامة تماماً؛ لأنها حاءت نكرة في سياق الشرط، ويمكن أن تُطلق على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما في قوله عز وجل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:١٩] فيجوز أن يطلق عليه شيء ولكن أي شيء هو؟ هو جل وتعالى أعظم وأكبر من كل شيء!

رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنوداً

فالقضية الكبرى المتنازع فيما بين اثنين على ممكلة عظيمة نقول إن هذه القضية شيء، وكذا لو تنازعا على ربع درهم لقلنا إنهما تنازعا على شيء وتحاكما عليه، فكل أجناس وأنواع القضايا تدخل في وجوب التحاكم ورد التنازع فيها إلى الله ورسوله؛ لأنها ضمن كلمة (شيء) في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} [النساء:٥٩] ولهذا قال في الآية الأخرى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:١٠] وفيها (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ) فحكم هذا الشرط (من شيء)، وتقدمها الجار والمجرور لزيادة تأكيد العموم، وهو التحاكم إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورد التنازع إليه عز وجل في كل شيء، بحيث لا يخرج شيء عن ذلك.

فشرط الإيمان بالله واليوم الآخر هو رد التنازع في أي شيء إلى الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:٦٠] فدعوى الإيمان زعم، أما في الحقيقة فليسوا بمؤمنين، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النساء:٦٠].

قال رحمه الله: ' ثم قال جل شأنه: (ذَلِكَ خَيْرٌ) فشيء يطلق الله عليه أنه خير لا يتطرق إليه شرٌ أبداً، بل هو خيرٌ محض، عاجلاً وآجلاً، ثم قال: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي: عاقبة في الدنيا والآخرة ' فرُد الأمر إلى الله ورسوله هو أحسن عاقبة في الدنيا والآخرة، وفي الحاضر والمستقبل، وفي كل زمن وعصر ولو كره المنافقون.