[الأدلة على أن القرآن طريق للحياة الطيبة]
إن اشتمال القرآن الكريم على مادة الحياة يمكن أن أستدل له بموضعين من كتاب الله عز وجل، وأتبع كل موضع بما يشهد له من الآيات، وأرجو أن لا أطيل في ذلك: - الدليل الأول:- أول الموضعين هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:٥٧]، هذه الآية تبين اشتمال القرآن على مادة الحياة، فماذا قال العلماء في تفسيرها؟! وهل بينت كيف تكون الحياة طيبة، كما دلت هذه الآية عليها؟ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس:٥٧] أي: تعظكم وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله تعالى المقتضية لعقابه، جاءتكم موعظة من ربكم في هذا الكتاب العزيز، وهذه المواعظ في الكتاب العزيز من عناصر مادة الحياة مع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والتذكير، والعلم اليقيني، وما إلى ذلك مما سيأتي بيانه، تنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله، فإذا اجتنبتموها حييتم حياة طيبة في الدنيا والآخرة، وفزتم؛ وعادت لكم كرامتكم التي كانت أوفر ما تكون لـ سلفنا الصالح في قرون الخير والإخلاص لله عز وجل والمتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذه الموعظة تحذركم من المعاصي ومفاسدها وتبين لكم آثارها {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي أن هذا القرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادرة عن عدم الانقياد للشرع، فهذا القرآن يشفيها إذا كانت قلوباً قابلةً واعيةً راضيةً بهذا الكلام ساعيةً إلى الانتفاع به، مؤمنةً به مصدقةً عازمةً على العمل فهو شافٍ لما في هذه الصدور من أمراض الشهوات الصادرة عن عدم الانقياد للشرع.
وفيه شفاء لما في الصدور من أمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني بألوهية الله، وربوبيته، وأسمائه وصفاته وأفعاله، واستحقاقه بعبادة عباده له سبحانه وتعالى، وأن يفردوه -وحده- بذلك دون غيره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى غير ذلك، فالقرآن شفاء لما في الصدور من هذه الأمراض؛ أمراض الشبهات التي تحول بين العبد وبين أن يحقق في نفسه عبودية صحيحةً لله عز وجل، فإن في هذا القرآن من المواعظ والترغيب والترهيب ما يوجب للعبد رغبة في الخير ورغبة عن الشر، هذه عناصر مادة الحياة: مواعظ، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير والرغبة عن الشر؛ يرغب في فعل الخير، ويرغب عن فعل الشر فلا يفعله، إذا وجدت فيه هاتان الرغبتان ونمتا -أي: زادتا وعظمتا- على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن؛ أوجب ذلك للعبد تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يُرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه.
وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرَّفها الله غاية التصريف وبينها أحسن بيان، براهين على وحدانيته، وعلى قدرته على البعث؛ والأدلة على قدرته وعظمته التي صرَّفها في القرآن غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبهة القادحة في العلم اليقيني، ويزيل كل شهوة تخالف أمر الله عز وجل.
وإذا صح القلب من مرضه ورفل بأثواب العافية تبعته الجوارح كلها؛ فإنها تصلح بصلاحه وتفسد بفساده، وما الذي يصلح هذا القلب؟! لا يصلحه إلا ما في هذا القرآن: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:٥٧]، وهذا الشفاء الذي تضمنه هذا القرآن عامٌ لشفاء القلوب من الشبه، والجهالة، والآراء الفاسدة، والانحراف السيئ، والمقاصد الرديئة، فإنه مشتمل على العلم اليقيني الذي تزول به كل شبهة وكل جهالة، ومشتمل على الوعظ والتذكير الذي تزول به كل شهوة تخالف أمر الله عز وجل، وهذا الشفاء أيضاً عامُّ لشفاء الأبدان، ففي القرآن شفاء للقلوب من الشهوات والشبهات، وشفاء للأبدان من الآلام وأسقامها بالرقى.
{وَهُدىً} في القرآن من عناصر مادة الحياة هدى، فما هو الهدى؟ هو: العلم بالحق، والعمل به.
{وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:٥٧] والرحمة هي من عناصر مادة الحياة وهي: ما يحصل من الخير والإحسان والثواب العاجل لمن اهتدى بهذا القرآن، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب.
وما في هذا القرآن من الأسباب والوسائل التي يحث عليها متى ما فعلها العبد فاز بالرحمة، والسعادة الأبدية، والثواب العاجل والآجل، ولكن هذا الهدى وهذه الرحمة لا تكون ولا تحصل إلا للمؤمنين بهذه الآيات المصدقين والعاملين بها؛ كما قال الله تبارك وتعالى في أول سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:٢]، فمفهوم ذلك أن من لم يكن متقياً لم يكن له في هذا الكتاب هدى.
وقال تعالى في موضعين من سورة المائدة: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [المائدة:٦٤] فيزيد غير المؤمنين القرآن طغياناً وكفراً، ويقول تعالى في سورة التوبة: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:١٢٤ - ١٢٥]، وقال تعالى في سورة الإسراء: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:٨٢]، فلعدم تصديق الآيات ولعدم العمل بها لا تزيد الظالمين آيات القرآن إلا خساراً، إذ بها تقوم عليهم الحجة، وقال تعالى في سورة فصلت: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:٤٤]، وإذا حصل الهدى، وحصلت الرحمة الناشئة عنه؛ حصلت السعادة والفلاح والربح والنجاح والفرح والسرور.
- الدليل الثاني:- وأما الموضع الثاني فهو: قوله تعالى في سورة الأنعام: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:١٢٢]، أو من كان من قبل هداية الله له في ظلمات الكفر، والجهل، والمعاصي فأحياه الله بالقرآن، وبنور العلم والإيمان، والطاعة، ووفقه لعبادته، واتباع رسله، فصار يمشي بين الناس في نور، متبصراً في أموره، مهتدياً لسبيله، عارفاً للخير مؤثراً له، مجتهداً في تنفيذه في نفسه وفي غيره، عارفاً بالشر مبغضاً له، مجتهداً في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره، هل يكون هذا كمن هو في ظلمات الكفر والجهل والبغي، والمعاصي ليس بخارجٍ منها، ليس له منفذٌ ولا مخلصٌ من هذه الظلمات هل يكون مثله؟! لا، فهذا قد اختلطت عليه الطرق، وأظلمت عليه المسالك، وحضره الهم والغم والحزن والشقاء.
فنبه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العقول بما تعرفه وتدركه من أنه لا يستوي هذا ولا هذا، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، والظل والحرور، والأحياء والأموات.
ومن أمثال هذه الآية الكريمة في سورة الأنعام، قوله تعالى في سورة البقرة: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:٢٥٧]، وقوله تعالى في سورة هود: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} [هود:٢٤] أي: المؤمنين والكافرين: {كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [هود:٢٤]، ومنها قوله تعالى في سورة النمل: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِى الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل:٨٠ - ٨١] وقوله تعالى في سورة فاطر: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:١٩ - ٢٢]، ومنها قوله تعالى في سورة الحديد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:١٦ - ١٧]، أي: حان وآن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لأجل ذكر الله، وما يتكرر على قلوبهم من زواجر ومواعظ القرآن وما يرد إليها منه.
والخشوع: خشية من الله تداخل القلب، وتظهر آثارها على الجوارح بالسكون والانخفاض والطمأنينة، حان للمؤمنين أن يكونوا كذلك وألا يكونوا كالذين: {أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦].
ثم نبه الله تعالى بهذه الآية: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:١٧] على أنه كما يحيى الأرض بعد موتها بالمطر، كذلك يحيى القلوب بهذا القرآن، وبنور العلم والإيمان والطاعة.
جعلنا ا