[عمر بن عبد العزيز والهمة العالية]
عمر بن عبد العزيز الذي جاء في زمن الفتنة والشهوات, والدنيا قد أقبلت ومع ذلك فقد أُثِرَ عنه أنه لما كان أميراً على المدينة [[جيء له بثوب, فقال: كم ثمنه؟ قالوا: خمسمائة دينار, فقال: رخيص! فلما ولى الخلافة جيء له بثوب, قال: كم ثمنه؟ قالوا: عشرة دراهم, قال: هذا غالي!]] فانظر كيف تبدل حاله! قال بعض جلسائه: والله يا أمير المؤمنين! إني لأذكر؛ لأنه في أول شبابه كان مترفاً رضي الله تعالى عنه مرة عرض عليك الثوب بكذا وكذا دينار, فقلت: رخيص، فقال كلاماً عظيماً عجيباً جداً! قال: [[تاقت نفسي إلى الإمارة، فلما وليتها تاقت نفسي إلى الخلافة, فلما وليت الخلافة تاقت نفسي إلى الجنة]] فهذه هي الهمة العالية! لما ولي الخلافة، كان يحكم الدنيا, ولو أن رجلاً أقسم بالله أنه كان يحكم الدنيا ما حنث ولا أثم كما يعبر الفقهاء، إذ كان يحكم من جنوب فرنسا إلى بلاد المغرب وأفريقيا إلى بلاد الشام والعراق والترك وحتى حدود الهند والصين , وتدفع له الممالك من غير المسلمين الجزية, هذه هي الدنيا! أما الأمريكتان واستراليا فلم تكن معروفة, وأما أوروبا فإنهم همج ولو أُعْطِيَتْ لأحد ذلك اليوم لما قبلها, ولو قيل له: احكم أوروبا , لقال: ما أريد بها وهم همج رعاع لا خير فيهم.
إذاً فقد كان يحكم الدنيا, فتطلع إلى ما هو أعظم من الدنيا, فقال: (الآن تاقت نفسي، أي: اشتاقت نفسي إلى الجنة).
إن القيمة الحقيقية هي في الآخرة, أما الذي يُعظِّم الدنيا ويحبها ويريد ما فيها, فقد يحصل عليها ولو بأغلى الأثمان, لكنها سرعان ما تنتهي وتذهب, وهكذا الدنيا! ليس فيها شيء يدوم! بهرج وبريق كبرق السحاب الخلب, ثم تذهب وتنتهي أما النفوس العالية ذات الهمة العالية، فهي لا تنظر إلى مجرد المتاع كالهمم الدنيئة.
كما قال بعض السلف: 'القلوب نوعان: قلوب تطوف حول العرش, وقلوب تطوف حول الحش' أي: المرحاض, ويعنون بذلك أنَّ أهل الدنيا كل تفكيرهم في شيء نهايته إلى ذلك المرحاض: شهوة النساء، أو شهوة الأكل، أو شهوة كذا, فكلها في المرحاض وما حوله؛ لكن هناك قلوب تطوف حول العرش, فهي دائماً هناك! تفكر في آلاء الله، وفي صفات الله، وفي أسماء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي هذه المعاني العظيمة, تُفكر دائماً فيما عند الله, تفكر في جنات عدن التي سقفها عرش الرحمن، وهكذا يعيش الناس في دناءاتهم, وهم بهذه الهمة العالية.