للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضلال الناس في أعمال القلب]

كيف ضلت الأمة في أعمال القلوب، وكيف أخطأت، وكيف صار حالها؟ في أول الحديث تعرضنا من أجل بيان أهميتها إلى التقصير والخلل الذي يحصل من أهل السنة والجماعة في هذا، فلعلنا نبدأ في هذا ثم ننتقل إلى المناهج الأخرى التي ضلت وانحرفت، فنقول: إن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والسلف الصالح، فهموا كتاب الله تبارك وتعالى, وأقاموه علماً وعملاً، وعلموا أهمية الإخلاص واليقين والصدق والمحبة وغير ذلك من أعمال القلوب، فتحققت فيهم العبودية الكاملة لله عز وجل، وعلموا أن لا إله إلا الله ليست كلمة تقال باللسان، وعلموا أن الإنسان إذا انقاد بقلبه وخضع وخشع، فلابد أن يعمل وأن تنقاد جوارحه؛ ولذلك كانت حياتهم واقعاً وترجمةً وتجسيداً لهذه الحقائق الإيمانية التي تعيشها قلوبهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

أما الذي حدث في العصور المتأخرة لبعض أهل السنة والجماعة -ولا نتكلم عمن عداهم- أنهم اعتراهم ما اعترى غيرهم, ولكن بقدر، فاعتراهم الضعف، وانحسر وتضاءل المفهوم في أذهانهم، فأصبح الدين كأنه الشعائر الأساسية, وأصبحت شهادة أن لا إله إلا الله مجرد قول فقط.

فلم يعد أهل السنة بتلك القوة وفي تلك القمة العالية التي كانت عليها الأجيال أو القرون الثلاثة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما قال: {خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم} هؤلاء الذين يأتون بعد القرون الثلاثة، ليسوا من أهل البدع ومن أهل الأهواء، بل هم على نفس الخط ولكنهم أقل، ففيهم ضعف، وفيهم من الأمور التي لا تخرجهم عن السنة، لكنها تخرجهم وتنزلهم عن درجة القرون الثلاثة المفضلة التي هي في قمة العمل والإيمان والتصديق بهذا الدين.

ودليل ذلك: أن الذين فهموا حقيقة أعمال القلوب من العلماء وتكلموا عنها قوبلوا بشيء من الاستغراب, فقد استغربهم أو ربما أنكر عليهم البعض, ولا نعني بالبعض أهل البدع, ولكن بعض أهل السنة ظنوا كأنما جاءوا بشيء جديد, أو كأن هذا العالم أتى بأمر ما كان يؤتى به من قبل، أو أنه على الأقل جاء بشيء هم لم يألفوه من شيوخهم، وانظروا -مثلاً- كيف استُغْرِبَ ما جاء به شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وما جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تبارك وتعالى، فبعض الناس فيه الخير والصلاح, ولا يحب أهل البدع ولا يركن إليهم، وكانوا أيام دعوة الشيخ محمد وفي أثنائها وقبلها ومع ذلك ما دعوا إلى مثل ما دعا إليه ولم يجددوا مثل ما جدد؛ لأنهم ما فطنوا إلى ما فطن إليه، لكن الشيخ -رحمه الله تبارك وتعالى- وقبله ابن تيمية والإمام أحمد، فهموا وعلموا أن هذه العقيدة قول وعمل، وأن القلب إذا حيَّ وتحرك وانطلق, فلا بد أن تتحرك الجوارح وتنطلق في الحياة, فليست المسألة تقرير بأن نجلس ونقرر عقيدة الأسماء والصفات، وعقيدة القدر, وعقيدة اليوم الآخر، وكل منا يحفظ هذا العلم، ثم ينصرف راشداً إلى بيته ويكون قد حصل له الخير والعلم والفضل، لا شك أنه حصل له خير وعلم وفضل والحمد لله وهذا شيء عظيم، لكن الأمر أكبر من ذلك أما هؤلاء الأئمة فقد تعلموا كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الصحابة الإيمان قبل القرآن.

وهؤلاء الذين ورثوا هذا العلم علموا أنه لا بد أن يتحول هذا العلم إلى عمل ودعوة وجهاد وصبر ومصابرة، لذلك انطلقوا في واقع الحياة، فلا يمكن أن يقر الإمام أحمد الأمة وهي تنصرف وتنحرف عن العقيدة الصحيحة إلى عقيدة فاسدة، وإنْ أُوذِي، وضرب، وجلد، وإن حصل له ما حصل -كما تعلمون- وكذلك شَيْخ الإِسْلامِ أراد أن يحرك هذه الأمة في الجهاد وهو في أول الصفوف، فيجاهد طواغيت التتار ويذهب بنفسه ويخاطبهم بأقوى الكلام.

أما الباطنية فيأخذ طلابه ويجاهدهم بالجدال، ويدعو الأمة لمقاتلة الصليبيين، إنها حياة حقيقية التقت فيها حياة أعمال الجوارح مع حياة القلب، وعمل القلب, ولكن ليست كل الأمة فيها ذلك, فالتقصير حصل عند أهل السنة في هذا, فعندما أتت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- كان الأمر كذلك.

والآن ونحن -والحمد لله- نعيش على هذه العقيدة وعلى بقايا هذه الدعوة, نجد فينا من الضعف الظاهر البيّن، والواضح الجلي، والذي يدل على أننا لم نحقق أعمال القلوب كما ينبغي، وإن كنا -والحمد لله- في الجملة مجانبين لأهل الأهواء والبدع، ولكن ليس الأمر فقط أن تجانب أهل الأهواء, ولكن أن ترتقي في درجات الإيمان واليقين والإخلاص والدعوة، ولذلك كم من المسلمين ومن طلاب العلم من لا يعلم شروط لا إله إلا الله، والتي هي: العلم والإخلاص واليقين والصدق والقبول والمحبة والانقياد، ولو رجعنا لأعمال القلب التي نتحدث عنها، فـ: "لا إله إلا الله" تقتضي هذه الشروط، والتي هي أساسيات الإيمان، فنحن رجعنا إلى هذه القضية، فالشخص الذي لم يتعلم هذه الشروط ولم يوفقه الله لها، بل ربما لا يتخيل أن لها شروطاً أو أركاناً أصلاً، لكن مع ذلك فهو إن شاء الله تبارك وتعالى على الإيمان والسنة وفيه خير ولا يأتي بالبدع، ولكن هذه الإشارة تكفي لنعلم أن الأمة لديها هذا الخلل والنقص الواضح.