[تفسير قوله تعالى: (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين)]
وفي الآية التي بعدها أضاف الأربعة الأخرى، فالمجموع ثمانية أزواج، فقال: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:١٤٤].
قوله: (ومن الإبل اثنين) عطف على قوله تعالى: (من الضأن اثنين) أي: وأنشأ من الإبل اثنين، يعني: زوجين، وهما: الجمل والناقة، (ومن البقر اثنين) يعني: ذكر البقر وأنثاه.
وقوله: (قل) يعني: قل لهم إفحاماً حتى في هذين النوعين أيضاً، كما سبق إفحامهم فيما مضى: (آلذكرين حرم) أي: آلذكرين من الإبل ومن البقر: ((حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ)) يعني: من ذينك النوعين، والمعنى: إنكار أن الله سبحانه وتعالى حرم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة، وإظهار كذبهم في ذلك، وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وتارة أخرى يحرمون إناثها، ويحرمون أولادها كيفما كانت الأجنة، سواء أكانت ذكوراً أم إناثاً، ويسندون هذا كله إلى تشريع الله سبحانه وتعالى، ويزعمون أن الله هو الذي أمرهم بهذا، وإنما عقب تفصيل كل واحد من نوعه الصغار ونوعه الكبار بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكار مع حصول التسكيت بإيراد الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة مبالغة في الرد عليه.
أي: لم يقل تبارك وتعالى: قل: آلذكور حرم أم الإناث أم ما اشتملت عليه أرحام الإناث.
بل فصل؛ لما في التسمية والتكرير من المبالغة في التسكيت والإلزام، ومبالغة في الرد عليهم بإنكار كل مادة من مواد افترائهم، فلم يذكرها الله سبحانه وتعالى مجملة، بل فصلها؛ لما علم من أن في ذلك تسكيتهم وتوبيخهم وإظهار كذبهم.
ثم كرر الإفحام فقال عز وجل: ((أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا)) فقوله: (أم كنتم شهداء) يعني: حاضرين (إذ وصاكم الله بهذا) أي: حين وصاكم بتحريم بعض وتحليله؟! فهذا من التهكم، يعني: أنتم تزعمون أن الله حرم هذا، فهل شهدتم هذا؟! وهل كنتم حاضرين حينما شرع الله لكم ذلك كما تزعمون؟! وقوله: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً) يعني: فنسب إليه تحريم ما لم يحرم.
أي: أنه نسب إلى الله وزعم أن الله حرم ما لم يحرمه الله عز وجل (ليضل الناس بغير علم) يعني: بغير دليل.
ثم ختم الله الآية بقوله: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين).
قال ابن كثير: أول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي بن قمعة؛ لأنه أول من غير دين الأنبياء، وأول من سيب السوائب، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، كما ثبت ذلك في الصحيح، والحديث أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار -يعني: أمعاءه-؛ كان أول من سيب السوائب)، أي أنه هو الذي سن هذه السنن السيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها، والوصيلة هي الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل، ثم تثني بعده بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى وليس بينهما ذكر، والحامي: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه، أي: تركوه للطواغيت، وعفوه من الحمل فلم يحملوا عليه شيئاً، وسموه الحامي، ولذلك قال أبو السعود في تفسير هذه الآية: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) المراد: كبراؤهم المقرون لذلك، أو: عمرو بن لحي؛ لأنه هو المؤسس لهذا الشرع، أو الكل سواء عمرو بن لحي وكل من اقتدى به فيما زعم؛ لاشتراكهم في الافتراء على الله سبحانه وتعالى.
قال السيوطي رحمه الله: دلت الآية على إباحة أكل لحوم الأنعام، وذلك معلوم من الدين بالضرورة، وكذلك الانتفاع بالركوب فيما يركب، والافتراش للأصواف والأوبار والجلود، وعلى رد ما كانت الجاهلية تحرمه بغير علم.