للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً)

قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:٣٥] ((إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ)) أي: اذكر إذ قالت امرأة عمران، واسمها: حنة، لما أسنت واشتاقت للولد فدعت الله عز وجل، فلما أحست بالحمل قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:٣٥].

(إِنِّي نَذَرْتُ) أي: نذرت أن أجعل، (لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا).

يقول الزجاج: كان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذرهم، وهذا في شريعتهم، أي: لو أن الأب نذر ابنه للتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى كان على الولد أن يطيع أباه في ذلك، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في مكان العبادة.

وقال القاضي أبو يعلى: والنذر في مثلما نذرت صحيح في شريعتنا، فإنه إذا نذر الإنسان إن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين صح مثل هذا النذر.

وانظر إلى قولها: ((ما في بطني)) ولذلك قدر السيوطي -وهذا من دقته في التفسير- في الجملة السابقة: ((إذ قالت امرأة عمران)) قال: لما أسنت واشتاقت للولد فدعت الله وأحست بالحمل، فقوله: أحست بالحمل، استنبطها من قولها: ((ما في بطني)) لأنها أحست بهذا الحمل.

((محرراً)) أي: عتيقاً خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس.

هذا التعبير في غاية الدقة في الحقيقة، فهو يتحرر من أن يعبد الدنيا، ويتذلل في طلبها؛ ليكون خالصاً لعبادة الله وحده.

معنى قولها: ((نذرت لك ما في بطني محرراً)) أي: نذرته وقفاً على طاعتك، لا أشغله بشيء من أموري، فلم تطلب منه الاستئناس به، ولا ما يطمع الناس من أولادهم؛ لأن الناس يطمعون من وجود الذرية إشباع ما في الفطرة من الاستئناس بالأولاد، كذلك أيضاً الاستنصار بهم، والاستعانة بهم، فهي تنازلت عن حظ نفسها من هذا الولد.

يقول العلماء: وهكذا على كل أحد إذا طلب ولداً أن يطلبه بالوجه الذي طلبت امرأة عمران وطلب زكريا حيث قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:٣٨] أي: صالحة.

وما سأل إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:١٠٠].

وقال تعالى في دعاء عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:٧٤] هبة من الله سبحانه وتعالى.

فهكذا الواجب أن يطلب الولد لا من أجل الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم، فانظر إلى امرأة عمران لما منّ الله تعالى عليها بالولد نظرت أن حظها من الأنس به متروك، فنذرته على خدمة الله تعالى في مكان العبادة، وهذا نذر الأحرار من الأبرار.

قال القرطبي رحمه الله تعالى: وأرادت بقولها: ((محرراً)) أي: محرراً من رق الدنيا وأشغالها.

وهذه إشارة إلى أن من لا يشتغل بطاعة الله سبحانه وتعالى اشتغالاً محضاً فهو لا بد له من نوع من الاسترقاق لمطالب الدنيا ومآربها، ويشبه هذا ما حكاه القرطبي أيضاً عن رجل من العباد أنه قال لأمه: يا أمه! ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم، فقالت: نعم، فسار حتى تبصر، ثم عاد إليها فدق الباب، فقالت: من؟ فقال لها: ابنكُ فلان، قالت: قد تركناك لله ولا نعود فيك.

هذه القصة قد يكون فيها شيء من النظر.

و ((محرراً)) كما ذكرنا مأخوذ من الحرية، والحرية ضد العبودية، ومن هذا تحرير الكتاب، يقال: الكتاب الفلاني حرره المصنف الفلاني، وخلصه من الاضطراب والفساد، والمحرر: هو الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا، تقول: طين حر، أي طين لا رمل فيه، وهناك عبارة مشهورة عند الناس يقولون: ذهب حُر، أي: لم يخالطه النحاس ولا غيره.

((فَتَقَبَّلْ مِنِّي) التقبل: هو أخذ الشيء على وجه الرضا.

((إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ)) أي: السميع للدعاء، والمقصود بالسميع هنا هو المجيب، كما تقول في الصلاة: سمع الله لمن حمده، يعني: أجاب الله سبحانه وتعالى.

((الْعَلِيمُ)) أي: بالنيات.