[تفسير القاسمي لآية الكرسي]
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ)) أي: الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء (القيوم) أي: الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظهم.
وهذه الآية تثبت أن الله سبحانه وتعالى لا يغفل أبداً عن تدبير أمر هذا الكون كله، لكن هذا بطريق الالتزام المقتضي عدم الغفلة التي يتنزه الله عنها، وقد أكد ذلك بالنص الصريح فقال: ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ))، فهذا تأكيد لقيوميته؛ لأنه لا يكون قيوماً من كان يغفل عن تدبير مصالحه، فالله لا يغفل أبداً، وبالتالي لا تأخذه النعاس ولا النوم.
و (السِّنَة) على وزن عِدَة، وهي شدة النوم أو أوله أو النعاس، قال المهايمي: السنة فتور يتقدم النوم، الفتور الذي يكون في أول مبادئ النوم هو السنة، ثم يكون النوم الذي هو أعمق، وهو: حال تعرض للحيوان من استرخاء دماغه تمنع الحواس الظاهرة من الإحساس.
والسنة والنوم على هذا منقصان للحياة، ومنافيان للقيومية؛ لأنهما من التغيرات المنافية لوجوب الوجود الذي للقيوم، ونفى النوم أولاً التزاماً، ثم نفاه تصريحاً بقوله: ((الْحَيُّ الْقَيُّومُ))، فإنه يلزم من حياته وقيوميته أنه لا يغفل أبداً سبحانه وتعالى، ثم صرح فقال: ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)) وهذا النفي يدل على ثبوت كمال ما ينافيه.
ومن كمال قيوميته اختصاصه بملك العلويات والسفليات المشار إليها بقوله: ((لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ)) يعني: من الملائكة والشمس والقمر والكواكب ((وَمَا فِي الأَرْضِ)) يعني: من العوالم المشاهدات، وهذا إخبار بأن الجميع في ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:٩٣ - ٩٤].
قوله: ((مَنْ ذَا)) يعني: مَن مِن الأنبياء أو من مِن الملائكة فضلاً عما ادعى الكفار شفاعته من الأصنام؟! يعني: إذا كان الأنبياء والملائكة أنفسهم لا يملكون شفاعة إلا بإذن الله، فكيف تزعمون أنتم -أيها الكافرون الذين خاطبهم القرآن- أن أصنامكم وآلهتكم تملك الشفاعة من دون الله؟! الأنبياء والملائكة لا يملكون الشفاعة إلا بإذن الله.
وإذا كان هنا نفي هذا النوع من الشفاعة، فبالأولى أن فيها نفياً لأن يقاوم الله سبحانه وتعالى أحد أو أن يناصبه أو يبطل إرادته.
((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ)) أي: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه يعني: بتمكينه تحقيقاً للعبودية كما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:٢٦]، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨]، وهذا من جلاله وكبريائه عز وجل، فلا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة يقول عليه الصلاة والسلام: (آتي تحت العرش -يعني: لا يشفع مباشرة- فأخر ساجداً فيدعني الله ما شاء أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع -صلى الله عليه وسلم- قال: فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة)، وقال له أبو هريرة: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت -يا أبا هريرة - ألا يسألني عن هذا الحديث أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فهذه الشفاعة هي لأهل الإخلاص والتوحيد بإذن الله، ولا تكون أبداً لمن أشرك بالله.
المشركون يدعون لآلهتهم الشفاعة، وهم ليسوا بموحدين ولا مخلصين، فبالتالي ليسوا من أهل هذه الشفاعة.
قوله: (يعلم ما بين أيديهم) يعني: ما عملوه بالفعل من أمور الدنيا أو مما يخصهم.
((وَمَا خَلْفَهُمْ)) يعني: ما حجب عنهم ولم يعلموه؛ لأن الخلف هو ما لا يناله الحس، فأنبأ أن علمه من وراء علمهم، وهو محيط بعملهم فيما علموا وما لم يعلموا، فهذه الجملة كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:٧٣]، فقوله: ((يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) هو الشهادة، وقوله: ((وَمَا خَلْفَهُمْ)) هو الغيب.
وقوله: ((وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)) أي: لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا بما أراد أن يعلمهم به منها على ألسنة الرسل كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:٢٦ - ٢٧] ليكون ما يطلعه عليه من علم غيبه دليلاً على نبوته.
روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الكرسي: العلم.
وقوله: ((وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)) يعني: لا يئوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السماوات والأرض، كما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف:٨٩]، فأخبر أن علمه وسع كل شيء فكذلك قوله: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)).
قال ابن جرير: وقول ابن عباس هذا يدل على صحة قول من قال: إن العلماء هم الكراسي؛ لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، يعني: أنهم الذين تصلح بهم الأرض، ومنه قوله الشاعر: يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب يعني: بذلك علمه في حوادث الأمور ونوالها، وروى ابن جرير أيضاً عن الحسن: أن الكرسي في الآية: هو العرش، وأيده بعضهم بأن لفظ عرش المملكة وكرسيها مترادفان؛ ولذلك قال تعالى على لسان سليمان: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:٣٨]، يقول: فالعرش والكرسي هما شيء واحد.