[تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله)]
قال تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩].
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) ما الذي معهم؟ التوراة، وما هو الكتاب؟ القرآن الكريم، (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ) قبل مجيء هذا الكتاب الكريم (يستفتحون) يستنصرون، يقولون: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث آخر الزمان، هذا أحد التفاسير لمعنى (يستفتحون)، (فلما جاءهم ما عرفوا) من الحق، وهو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم (كفروا به) حسداً وخوفاً على الرياسة، وجواب (لما) الأولى دل عليه جواب (فلما) الثانية، الذي هو: (كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
قوله تعالى: (ولما جاءكم كتاب من عند الله) الواو هنا عاطفة على قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف).
وقوله تعالى: (ولما جاءكم كتاب) كتاب بالتنكير للتعظيم، (من عند الله) ووصفه بأنه من عند الله أيضاً زيادة تشريف لهذا الكتاب، فمعروف أنه من عند الله، لكن ذكر هنا (كتاب من عند الله) فوصفه بأنه من عنده للتفريق والإيذان بأنه جدير بأن يقبل ما فيه ويتبع؛ لأنه من خالقهم وإلههم، أي: هو من عند الله الذي خلقكم، فأولى بكم أن تؤمنوا به.
(مصدق لما معهم) هنا جعله مصدقاً (لما معهم) باللام، ولم يقل: مصدقاً بما معهم؛ لأنه لو قال: مصدقاً بما معهم، كان فيه إعطاء وصف التبعية للقرآن لما معهم هم، وقد آمن وصدق بما معهم، لكن (لما معهم) فيه إعطاء القرآن وصف الهيمنة، كما قال: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:٤٨].
إذاً: لم يقل: مصدقاً بما معهم، فجعله مصدقاً له لا به، إشارة إلى أنه بمنزلة الواقع ونفس الأمر لكتابهم، لكونه مشتملاً على الإخبار عنه محتاجاً في صدقه إليه، وإلى أنه في إعجازه مستغن عن تصديق الغير، فالقرآن يصدق غيره؛ لأنه نوه بالتوارة ومدحها، فهذه الحكمة من استعمال اللام بدل الباء في قوله: (مصدقاً لما معهم)، لكن لو قال: بما معهم، فكأن التوراة هي التي تشهد للقرآن، لكن الحقيقة أن القرآن مهيمن على ما عندهم من الكتب.
(وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) الاستفتاح هو الاستنصار، ومعنى الفتح هو الحكم والقضاء، فالاستفتاح يعني أن يحكم الله سبحانه وتعالى ويقضي بينهم وبين أعدائهم بالنصر، وفي الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين)، يعني: يستنصر بدعائهم وصلاتهم، ومنه أيضاً قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة:٥٢]، وكلمة النصر تعني فتح شيء مغلق، فهو يرجع إلى قولهم: فتحت الباب.
وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).
وروى النسائي أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم).
وقيل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) أي: يستخبرون عنهم، من بين وقت وآخر وهم يسألون: هل ولد مولود صفته كذا وكذا؟ (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به)، مع أنكم كنتم تستفتحون به من قبل عليه الصلاة والسلام، لكن لما جاءهم كفروا به، وهذا مثل قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤]، إشارة إلى أن نوع كفرهم إنما هو كفر الجحود والاستكبار.
وهنا قوله تعالى: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) (ما) موصولة، أي: فلما جاءهم الذي عرفوا كفروا به، فإيراد الموصول هنا بالإضمار لبيان كمال مكابرتهم، ولم يقل الله سبحانه وتعالى: فلما جاءهم كفروا به، ولكن قال: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فأورد الموصول ولم يستعمل الضمير؛ لأنه لو قال: (فلما جاءهم) سيكون الفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على الكتاب أو على الرسول، وإنما قال: (فلما جاءهم ما عرفوا) والذي كانوا يستفتحون بمجيئه من قبل كفروا به، فهذا لبيان كمال مكابرتهم وجحودهم، أو (فلما جاءهم ما عرفوا) المقصود به هنا الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس الكتاب على التفسير الأول، لكن المقصود بقوله: (جاءهم ما عرفوا) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد يعبر عن العاقل (بما) إذا أريد الصفة، فأحياناً يعبر العرب (بما) عن صفات من يعقل مثل قوله تبارك وتعالى في سورة الكافرون: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:٣] يعني إلهي الذي أعبده الذي صفته كذا وكذا، فعبر عن الله سبحانه وتعالى (بما أعبد)، ويقول تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:٥] المقصود: ومن بناها وهو الله سبحانه وتعالى، وقوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:٣]، النساء عاقل، فعبر عنهن (بما)، لكن المقصود هنا الصفة في الطيب، فلذلك قال: (فانكحوا ما طاب لكم)؛ لأنه هنا يعبر (بما) عن صفات من يعقل، وهكذا (فلما جاءهم ما عرفوا)، وعلى التفسير الآخر يكون المراد: الكتاب، أي: فلما جاءهم الكتاب كفروا به، فتكون: (ما عرفوا) اسم موصول، أو: (فلما) الثانية تكرير لطول العهد، واقتضى الأمر التكرار لما بعد العهد، كما في قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران:١٨٨]، فهذا تكرار أيضاً بسبب طول العهد أو الفصل.
وقيل: (ولما جاءهم كتاب من عند الله) جوابه محذوف، وهو: كذبوا به، فهذه معاملتهم مع الكتاب المصدق، (فلما جاءهم كتاب) وهنا ليس تكراراً، وفي تفسير آخر: أن (لما) الثانية: (فلما جاءهم) ليست تكراراً لـ (ما) الأولى، وإنما هذه يقصد بها الأمر غير تلك، فالأولى (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) تقديره: كذبوا به، فهذه معاملتهم مع الكتاب الذي يصدق ما معهم، أما قوله: (فلما جاءهم ما عرفوا)، فالمقصود بها الرسول عليه الصلاة والسلام، (كفروا به) فهذه معاملتهم مع الرسول المستفتح به، ورجح هذا التفسير بأن لما الأولى المقصود بها شيء غير لما الثانية؛ لأن التكرار يحتمل التوكيد، أما هنا فيكون تأسيساً وليس تكراراً للمعنى؛ فالتأسيس أولى من التأكيد.
أي: أن أي كلام يحتمل أن يدور بين أمرين، إما أن يكون التكرار فيه للتوكيد أو لتأسيس معنى جديد، وما دام يحتمل الأمرين فيترجح أن يكون للتأسيس، مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:١]، وصدوا ممكن أن تكون بمعنى أعرضوا، فتكون توكيداً لمعنى الكفر، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} [النساء:٥٥] أي: أعرض عنه، ومثل: كلمني فصددت عنه.
يعني: أعرضت عنه، لكن كلمة صدوا ربما تحتمل معنى آخر، أي: كفروا في أنفسهم وصدوا غيرهم، مثل أي داعية للكفر والفساد، يصد غيره عن سبيل الله، فهنا توكيد لكلمة صدوا، فعلى القول الأول تكون تكراراً، وعلى القول الثاني تكون بمعنى صدوا غيرهم، وفيها معنى التأسيس لمعنى جديد، كفروا في أنفسهم وصدوا غيرهم.
كذلك هنا (ولما جاءهم كتاب من عند الله): (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فيحتمل أن التكرار للتوكيد لبعد العهد، أو للتأسيس؛ لأن هذه مقصود بها معنى غير الآخر، فقوله: (فلما جاءهم كتاب) هذه لها معنى مستقل جوابه وتقديره: كذبوا بالكتاب المصدق، (ولما جاءهم ما عرفوا) وهو الرسول المبعوث الذي كانوا يستفتحون به أيضاً كفروا به، فهنا يترجح التأسيس على التوكيد.