[تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا عملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد)]
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:٢].
فبعد أن ذكر الكافرين أتبعهم بذكر المؤمنين، قال: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))، و (الذين) صيغة عموم، فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ولا يمنع من ذلك خصوص سببها.
فقد قيل: إنها نزلت في الأنصار، وقيل: في أناس من قريش، وقيل: في مؤمني أهل الكتاب، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي: آمنت قلوبهم وسرائرهم، وانقادت جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم.
قوله: ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))، وهذا من عطف الخاص على العام، فـ (آمنوا) في أول الآية عام، ثم ذكر الخاص بعد ذلك: ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))، صلى الله عليه وسلم، فهذا عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم.
أي: (والذين آمنوا) إيماناً عاماً بكل ما ينبغي الإيمان به، لكن هناك إيمان خاص بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الإيمان بما نزّل على محمد، وهو شرط في صحة الإيمان، وإذا لم يأتوا بهذا الشرط حبط كل عملهم، فبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم غلقت جميع الأبواب المؤدية إلى الجنة، ولم يبق إلا باب وطريق واحد وهو اتباع ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن لم يؤمن بمحمد عليه السلام بعد بعثته كان من أهل النار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)، وهذه إشارة إلى أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم.
قال الشوكاني رحمه الله: وخص سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله، تنبيهاً على شرفه وعلو مكانته.
أي: مع أن الإيمان بمحمد داخل في قوله: (والذين آمنوا)، لكن خُصّ بالذكر لينبه على شرفه وعلو مكانته.
قوله: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) هذه جملة معترضة بين المبتدأ وهو: ((والذين آمنوا)) وبين خبره وهو ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)).
قوله: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ))، قال الشوكاني: معنى كونه الحق أنه الناسخ لما قبله.
قوله: ((مِنْ رَبِّهِمْ))، في محل نصب على الحال.
قال القرطبي: يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم.
وقيل: إن القرآن هو الحق من ربهم، فقد نسخ به ما قبلهم.
قوله: ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) أي: السيئات التي عملوها فيما مضى، فإنه غفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح.
قوله: ((وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) قيل: شأنهم، أو أمورهم، أو حالهم، والمعاني الثلاثة متقاربة، وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بالإيمان.
وحكى النقاش: أن المعنى: ((وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) أي: أصلح نياتهم، وهو على هذا التأويل محمول على صلاح دينه، يعني: بعض العلماء قالوا: إنها متأولة، أصلح بالهم أي: أصلح ما يتعلق بدنياهم، كذلك قلنا: بأنه الشأن أو الأمور أو الحال.
وقال الشوكاني: قيل: ومعنى ((وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) أي: عصمهم من المعاصي في حياتهم، وأرشدهم إلى أعمال الخير، وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال، وقد جاء في حديث تشميت العاطس: (يهديكم الله ويصلح بالكم) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
ويقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم.
قوله: ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)) أي: بما أنزل الله به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما خصه بالذكر مع دخوله فيما قبله تعظيماً لشأنه؛ لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به، إذ يفيد بعطفه أنه أعظم أركانه في إفراده بالذكر، وقد تأكد ذلك بالجملة الاعتراضية وهي قوله: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ))؛ لتبين شرف وعظم مكانة الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إليه: (وهو الحق) أي: الثابت بالواقع ونفس الأمر، ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) أي: ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الفسق والمعاصي، فالتكفير هو التغطية، ومنه كفرت البذرة إذا غطيتها بالتراب، فالمقصود: أن الإيمان والعمل الصالح ستر وغطى على ما كان منه من الكفر والمعاصي؛ لنزوعهم عنها وتوبتهم، (وأصلح بالهم) أي: حالهم وشأنهم وعملهم في الدنيا بالتأييد والتوفيق.
قال الشهاب: البال يكون معناه الحال والشأن، وقد يَخَصّ بالشأن العظيم، كما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: (كل أمر ذي بال) (ذي بال) أي: ذي شأن عظيم.
ويتجوَّز به عن القلب.
أي: قد يستعمل استعمالاً مجازياً بمعنى القلب، ولو فسر البال هنا بالقلب لكان المعنى حسناً أيضاً، ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) أي: أصلح قلوبهم.
وقد فسره النسفي بالفكر؛ لأنه إذا صلح قلبه وفكره صلحت عقيدته وأعماله.
وقال ابن جرير (البال) كالمصدر مثل الشأن، لا يعرف منه جمع، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة الفعل، فإذا جمعوه قالوا: بالاً، بالاً.
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: (وأصلح بالهم) أي: أصلح لهم شأنهم وحالهم إصلاحاً لا فساد معه.
وما ذكره الله جل وعلا هنا في أول هذه السورة الكريمة من أنه يبطل أعمال الكافرين، ويبقي أعمال المؤمنين جاء موضحاً في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:١٥]، تأملوا الظرف (فيها)، فالهاء تعود إلى الحياة الدنيا، أي: لا يجازَون إلا في الدنيا؛ ولذلك صح في الحديث: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر) فالدنيا هي المكان الوحيد الذي يثاب فيه على ما عمل من الأعمال الحسنة، فيوجد من التقاة من يعمل أعمالاً حسنة كبر الوالدين، وصدق الحديث، والوفاء بالوعد، والإحسان إلى الفقراء، فهذا قد يحصل من الكافر، فيثاب عليها في الدنيا فقط، بشرط أن يشاء الله ذلك.
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:١٥] أي: في الدنيا فقط.
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} [هود:١٦] أي: في الآخرة، {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٦].
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:٢٠].
وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:٢٣ - ٢٤].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:١٩]، وقال تعالى في سورة الأحقاف: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:٢٠].
قوله تعالى: ((وأضل أعمالهم)) أصله من الضلال، وهو بمعنى: الغيبة والاضمحلال، فالشيء إذا غاب فقد ضل، وليس مأخوذاً من الضالة، فهذا كقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:٢٤].
قوله تعالى: ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))، قال ابن كثير: هو عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود:١٧].
وقوله تعالى: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) جملة اعتراضية تتضمن شهادة الله بأن هذا القرآن المنزل على هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله، كما قال تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام:٦٦]، فالله يشهد لنبيه بأنه على الحق: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:٧٩]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة:٥٠ - ٥١]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [يونس:١٠٨]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:١٧٠].