وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان، تتفقان مع طبيعته ومهمته، فأعجب العجب أن يجتمع إليه الإنسان وحاله هو هذا الحال، وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة، فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية في مجال حي من الواقع، ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن، فالحقائق المجردة لا تؤثر في المشاعر، ولا تستجيش القلوب للاستجابة، وهذا فصلُ ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين، وتنتهي قصة بني النضير وقد ضمت في ثناياها وفي أعقابها هذا الحشد من الصور والحقائق والتوجيهات، واتصلت أقداسها المحلية الواقعة بالحقائق الكبرى المجردة الدائمة، وكانت رحلة في عالم الواقع وفي عالم الضمير تمتد إلى أبعد من حدود الحادث ذاته، وتختلف روايتها في كتاب الله عن روايتها في كتب البشر، فكم ما بين صنع الله وصنع البشر من فوارق لا تقارن.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى في قوله تعالى:{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}[الحشر:١٦ - ١٧]، (كمثل الشيطان) أي: مثَل المنافقين في إغراء بني النضير على القتال، ووعدهم النجدة أو الصمود معهم، ومثَل انخداع بني النضير لوعد أولئك الكاذب كمثل الشيطان، ((إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ)) أي: إذ غر إنساناً ووعده على اتباعه وكفره بالله النصرة عند الحاجة إليه، ((فَلَمَّا كَفَرَ)) أي: بالله، واتبعه وأطاعه ((قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ)) أي: مخافة أن يسنده في عذابه متيماً له، ((إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ)) أي: فلا أعيذك، ((إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)) أي: في نصرتك، فلم ينفعه التبرؤ كما لم ينفع الأول وعده الإعانة، {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}[الحشر:١٧] أي: في حق الله تعالى، وحق العباد، وهكذا جزاء اليهود من بني النضير والمنافقين الذين وعدوهم النصرة، وكل كافر بالله ظالم لنفسه على كفره به؛ إنهم في النار مخلدون.
وقيل: إن المقصود بهذه الآية: ((كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ)) هو راهب تُركت عنده امرأة، فزين له الشيطان وطأها فحملت، ثم قتلها خوفاً من أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم، فسجد له، فتبرأ منه وأسلمه، وهذه القصة مذكورة في كتب التفسير بطولها، وهي في حديث صححه الحاكم وسلم له الذهبي هذا التصحيح، وقال ابن الجوزي: إن الصحيح أن هذه القصة موقوفة على علي رضي الله تعالى عنه، وهذا خلاف قول ابن عطية، فإنه لما علقها قال: منسوبة للقصاص ضعيفة، وقال بعض العلماء: لعلها من الإسرائيليات.
قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى:((إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)): المعروف أن إبليس مُنظَر ومؤجّل، فقد سأل الله سبحانه وتعالى أن ينظره ويؤجله إلى يوم القيامة، قال:{قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ}[الأعراف:١٤ - ١٥]، فإبليس ما زال حياً إلى الآن، وهو الآن ليس في النار، بل لا يزال يمارس مهمته في إغواء البشر، ((إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)) قال بعض المفسرين: يعني: إني أخاف أن يعجل لي عذابي الآن في الدنيا، فهو الآن ما زال موجوداً في الدنيا كما هو معلوم.