[كلام الشنقيطي على قصة نوح]
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:٩ - ١٦].
للعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات فيما يتعلق بقصة نوح عليه السلام، يقول: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}، أن نبيه نوحاً دعاه قائلاً: إن قومه غلبوه؛ سائلاً ربه أن ينتصر له منهم، وأن الله انتصر له منهم فأهلكهم بالغرق؛ لأنه تعالى فتح ((أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ)) وأنه تعالى فجر الأرض عيوناً، وإعرابها: تمييز محوَّل عن المفعول، والأصل: فجرنا عيون الأرض.
والتفجير: إخراج الماء منها بكثرة، و (ال) في قوله: (الماء) للجنس، ومعناه: التقى ماء السماء وماء الأرض، ((عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)) أي: قدره الله وقضاه.
وقيل: إن معناه أن الماء النازل من السماء والمتفجر من الأرض جعلهما الله بمقدارٍ ليس أحدهما أكثر من الآخر.
والأول أظهر.
وما تضمنته هذه الآيات الكريمة من دعاء نوح ربه جل وعلا أن ينتصر له من قومه فينتقم منهم، وأن الله أجابه فانتصر له منهم فأهلكهم جميعاً بالغرق في هذا الماء الملتقي من السماء والأرض، وضحه قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَنُوحَاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:٧٦ - ٧٧]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:٧٥ - ٧٦]، إلى قوله: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الصافات:٨٢].
وبين جل وعلا أن دعاء نوح فيه سؤاله الله عز وجل أن يهلكهم إهلاكاً مستأصلاً، فجاءت آيات تبين قوله هنا: ((فَانْتَصِرْ))، أي: انتقم لي، كقول الله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً} [نوح:٢٦ - ٢٧]، وهذا طبقاً للتجربة السابقة بالإضافة إلى إخبار الله عز وجل في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:٣٦]).
يقول: وما دعا نوح على قومه إلا بعد أن أوحى الله إليه أنه لا يؤمن منهم أحد غير القليل الذي آمن، وذلك في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:٣٦]، وقد قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:٤٠].
قالوا: وقوله تعالى: ((وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونَاً)) قرأه ابن كثير، وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وعاصم في رواية شعبة، وحمزة، والكسائي: {عِيُونَاً} [القمر:١٢] بكسر (العين) لمجانسة (الياء)، ولها نظير في سورة الأحزاب: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:٣٣]، وفي قراءة أخرى: ((بِيُوتِكُنَّ)).
وقرأه نافع، وأبو عمرو، وابن عامر في رواية هشام، وعاصم في رواية حفص: ((عُيُونَاً)) بضم (العين) على الأصل.
قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}، لم يبين هنا ذات الألواح والدُّسُر؛ ولكنه بين في موضع آخر أن المراد: وحملناه على سفينة ذات ألواح، أي: من الخشب، و (دُسُر) أي: مسامير تربط بعض الخشب ببعض، وواحد (الدُّسُر) دِسار ككُتُب وكِتاب، وعلى هذا القول أكثر المفسرين.
وقال بعض العلماء وبعض أهل اللغة: (الدُّسُور): الخيوط التي تشد بها ألواح السفينة.
وقال بعض العلماء: (الدُّسُور): جؤجؤ السفينة، يعني: صدرها ومقدمها الذي تدسر به الماء، أي: تدفعه وتمخره به، قالوا: هو من الدَّسْر، أي الدفع.
فمن الآيات الدالة على أن ذات الألواح والدسر هي السفينة قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:١١]، أي: السفينة، كما يدل عليه قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:٣٢]، (الجوار) السفن التي تجري، وقال تعالى: ((فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ)) [العنكبوت:١٥]، وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:٤١].
قوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قال بعض العلماء: إن (الهاء) أو الضمير في قوله: ((تَرَكْنَاهَا)) عائد إلى هذه الفعلة العظيمة التي فعل الله سبحانه وتعالى بقوم نوح، والمعنى: ولقد تركنا فعلتنا بقوم نوح وإهلاكنا لهم آية لمن بعدهم؛ لينزجروا ويكفوا عن تكذيب الرسل؛ لئلا نفعل بهم مثلما فعلنا بقوم نوح.
وكون هذه الفعلة آية نص عليه تعالى في قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [الفرقان:٣٧]، وقال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:١١٩ - ١٢١].
فهذا كله يؤيد القول بأن الآية هي ما فعله الله بهم من الإغراق.
وقال بعض العلماء: الضمير في: ((تَرَكْنَاهَا))، عائد إلى السفينة.
وكون سفينة نوح آية بينه الله تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا} [العنكبوت:١٥] أي: السفينة {آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت:١٥]، وقال تعالى أيضاً: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:٤١ - ٤٢].