[تفسير ابن كثير لقوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)]
يقول ابن كثير: ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم تشريفاً له وتعظيماً وتكريماً: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:١٠]، كقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:٨٠]، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠] أي: هو حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى المبايع بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:١١١].
قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى) من الذي اشترى؟ الله؛ لكن بواسطة رسوله عليه الصلاة والسلام في هذه المبايعة أو في أمثالها؛ لأن من بايع الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنما بايع الله سبحانه وتعالى، ثم استدل ابن كثير بحديث نصه: (من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله)؛ لكن هذا الحديث ضعيف.
أيضاً: ذكر ابن كثير حديثاً آخر فيه هذه المناسبة، وهو حديث: (إن الحجر الأسود يمين الله في الأرض، من استلمه فقد صافح الله عز وجل)، وهذا الحديث ضعيف، قال ابن الجوزي: لا يصح، وقال ابن العربي: هذا حديث باطل لا يلتفت إليه، ونحوه حديث: (الحجر يمين الله، فمن مسحه فقد بايع الله ألا يعصيه)، وهذا الحديث موضوع.
وقد ثبت أنه لا يوجد شيء على وجه الأرض من الجنة غير الحجر الأسود، وهذا حديث صحيح: (إن هذا الحجر كان أبيض من الثلج، ثم سودته خطايا أهل الشرك)، كما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً قوله: (إن الحجر الأسود يأتي يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بخير).
وبعض الناس ليس عندهم خبرة في التعامل مع كتب التفسير، بالذات التفسير السلفي الرائع تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير، فيقول: انظر ابن كثير أتى بأحاديث ضعيفة! فينبغي أن نترك هذا التفسير! هذه النغمة يرددها بعض الجهلة الظالمين بين وقت وآخر، نحن نلاحظ أن ابن كثير يسوق هذه الأحاديث مقرونة بالأسانيد، فمتى ما ساق العالم أو الإمام الحديث بإسناده فقد برئت عهدته منه؛ لأنه قرن الحديث بالوسيلة التي تعين قارئ الكتاب على الوصول إلى درجته من الصحة أو الضعف، وسبق أن تكلمنا بالتفصيل عن سبب تدوين العلماء لكتب الحديث دون تحقيق إلا من محض كتبه بالصحيح، لكن عامة المحدثين دونوها بأسانيدها لأسباب تكلمنا عليها بالتفصيل من قبل.
إذاً: الذي ينزعج من هذا هو الجاهل أو القاصر الذي لا يعرف كيف يصل إلى درجة الحديث، لكن العالم لا يتهم ابن كثير بالتقصير لأنه أورد أحاديث ضعيفة.
أمر آخر وهو أن ابن كثير بين في مقدمة تفسيره منهجه في التفسير، فهو يقول: أنا أسرد جميع ما أمكن وما جاء في تفسير الآية؛ لأبطل الباطل وأحق الحق، وبدأ منهجه على أساس المنهج الذي رسمه الله سبحانه وتعالى لنا في سورة الكهف، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:٢٢]، فحكى القولين الباطلين، وبين أن هذا عبارة عن رجم بالغيب، وادعاء بدون علم وبينة، وهذان القولان غير صحيحين، وفي هذا فائدة، وهي أن الإنسان يتعلم الأشياء الضعيفة حتى يتقيها، أما القول الصحيح في عددهم فهو الأخير، قال عز وجل: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:٢٢] ولم يبطل هذا القول الأخير، فبنى ابن كثير منهجه في التفسير على هذا، فهو يأتي بالأقوال التي رويت ووردت في تفسير الآية، ثم يبطل الباطل صراحة أو ضمناً، فصراحة: بأن يبين أن هذا موضوع أو ضعيف، أو ضمناً: بأن يأتي بالحديث بأسانيده ومعه الوسيلة التي توصل المحقق إلى درجة هذا الحديث، فما قصر رحمه الله تعالى.
ملاحظة أخرى: نلاحظ أن ابن كثير في تفسير قوله تبارك وتعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قال: أي: هو حاضر معهم يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم.
فبعض الناس يقول: إذاً ابن كثير مؤول؛ لأنه لم يثبت هنا صفة اليد! نقول: لا، حتى لو جدلاً قلنا: إن ابن كثير هنا أول هذه الآية بهذا المعنى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يعني: الله حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، فلا يعني هذا نسبة الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى إلى التأويل مطلقاً؛ لأن الإمام إذا أخذ أو فهم منه التأويل في موضع فننظر في أقواله في المواضع الأخرى، ومعروف أن ابن كثير سلفي قوي السلفية رحمه الله تعالى، فهو ما كان يحيد أبداً عن منهج السلف الصالح، وهو تلميذ من تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وشعاع من نور ابن تيمية، ويكفي أنه كان قد أوصى أن يدفن مع شيخ الإسلام ابن تيمية ودفن معه، فهو شيخه وإمامه، وهو أحد الأشعة التي انطلقت من نور شيخ الإسلام، فكيف يكون تلميذاً لـ ابن تيمية ثم ينسب إليه التأويل؟! لكن بعض المواضع من حيث اللغة قد تحتمل بعض هذه التأويلات، كما في قصة بلقيس في سورة النمل، في قوله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل:٤٤]، فبعض المفسرين يقول: هذه عبارة عن نزول الشدة، فيؤولون بها قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:٤٢] بأنه كناية عن الشدة، فربما يقع بعض المفسرين السلفيين في تأويل آية سورة القلم التي هي قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:٤٢]؛ لأن له سنداً من اللغة وشواهد لغوية تدل على أن هذا التعبير يستعمل فعلاً في الشدة، لكن لا يعني ذلك أنه يؤول الحديث الذي أتى في تفسير هذه الآية من أحاديث الصفات، كذلك كلام ابن كثير هنا إن كان يفهم منه التأويل هنا، وإن لم يكن صريحاً في ذلك، لكن في المواضع الأخرى لا شك أن ابن كثير سلفي يثبت الصفات ولا يؤول.