[تفسير قوله تعالى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى)]
قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه:٨٣] أي: أي شيء عجل بك عنهم، على سبيل الإنكار؛ فالله سبحانه وتعالى أنكر على موسى عليه السلام أنه تقدم بين يدي من كانوا معه من نقباء بني إسرائيل، وعجل شوقاً إلى كلام ربه عز وجل ولقائه.
فقوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى}، إنكار من الله سبحانه وتعالى لتعجل موسى عن قومه، وكان قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور على الموعد المطلوب، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه ورضاه.
{قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:٨٤].
((قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي)) أي: قادمون ينزلون بالطور، وإنما سبقتهم بما ظننت أنه خير، ولذا قال: ((وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)) أي: ظننت أن تقدمي بين أيديهم وسبقي إياهم إليك مما يرضيك عني للمسارعة إلى الامتثال بأمرك، واعتنائي بالوفاء بعهدك، وزيادة (رب) لمزيد الضراعة والابتهال ورغبة في قبول العذر، ((وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)) يعني: يا رب لترضى، ويعتبر هذا براً منه عليه السلام وابتهالاً إلى الله سبحانه وتعالى، عسى أن يتقبل عذره بعدما أنكر الله عليه تعجله في لقائه قبل قومه.
قال الناصر: إنما أراد الله تعالى بسؤاله عن سبب العجلة: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} وهو سبحانه وتعالى أعلم أن يعلم موسى أدب السفر، وهو: أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم في المسير، كما كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يجعل أصحابه بين يديه ويتأخر هو عنهم في مؤخرة المجموعة التي يصحبها، فكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤدب موسى بهذا الأدب، وهو أنه كان ينبغي أن تتأخر فأنت رئيس القوم، وذلك ليكون نظره محيطاً بطائفته، وقد كانت الملائكة تتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذا كان يتأخر، وكذلك لأنه إذا كان في مؤخرتهم فإنه يحيط نظره بهم جميعاً، فيرى من كان مريضاً أو من أصابه شيء، أو من ارتد عن المجموعة، فيكون نظره محيطاً بطائفته، ونافذاً فيهم، ومهيمناً عليهم، وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب لوطاً عليه السلام في قوله: {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} [الحجر:٦٥] يعني: اجعلهم يمشون أمامك وكن أنت خلفهم، فأمره أن يكون آخرهم، على أن موسى عليه السلام إنما فعل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عز وجل، يعني: موسى عليه السلام ضحى بهذا الأدب لشدة شوقه إلى لقاء ربه، وكان يحسب أن في ذلك إرضاءاً لله عز وجل في مبادرته إليه ومسارعته إلى الميعاد، وذلك شأن الموعود بما يطلبه، وهذه طبيعة فيمن عنده موعد مع من يحب أو موعد يسره، فلو استطاع أن يطير قبل الموعد لسارع إلى ذلك، ولا أسرَّ من مواعدة الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام الذي ذاق طعم مناجاة الله عز وجل من قبل، فكان في أشد الشوق إلى لقاء الله وحضور موعده عز وجل.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:٨٣ - ٨٤]: أشار جل وعلا في هذه الآية الكريمة إلى قصة مواعدته موسى أربعين ليلة، وذهابه إلى الميقات، واستعجاله إليه قبل قومه، وذلك أنه لما واعده ربه وجعل له الميقات المذكور، وأوصى أخاه هارون أن يخلفه في قومه؛ استعجل إلى الميقات، فقال له ربه: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى}، وهذه القصة التي أجملها هنا أشار إليها تبارك وتعالى في غير هذا الموضع، كقوله في الأعراف: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٢ - ١٤٣].
وفي هذه الآية سؤال معروف، وهو: أن جواب موسى ليس مطابقاً للسؤال الذي سأله ربه؛ لأن السؤال عن السبب الذي أعجله عن قومه، والجواب لم يأت مطابقاً لذلك؛ لأنه أجاب بقوله: {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}.
وأجيب عن ذلك بأجوبة منها: أن قوله: ((هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي)) يعني: هم قريب وما تقدمتهم إلا بقدر يسير يغتفر مثله، فكأني لم أتقدمهم ولم أعجل عنهم لقرب ما بيني وبينهم.
هذا هو الجواب الأول.
الجواب الثاني: أن الله جل وعلا لما خاطبه بقوله: ((وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ))، داخله عليه السلام من الهيبة والإجلال والتعظيم لله جل وعلا ما أذهله عن الجواب المطابق، والله تعالى أعلم.
في قوله تعالى: {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أدب المؤمن، وهو المسارعة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، والإنسان متى ما عرف أن رضا الله سبحانه وتعالى في شيء فعليه أن يسارع إلى هذا الشيء، ويشهد لهذا المعنى آيات كثيرة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:١٣٣]، وكذلك في سورة الحديد: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:٢١]، وقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:٥٠]، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:٩٠]، وقوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٦]، ومن الآيات التي تمثل هذا المعنى قوله تعالى: ((وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى))، فإن كان عليه ذنب فليعجل التوبة ولا يسوفها؛ لأن تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه؛ فيجب على الإنسان التوبة على الفور، فكلما أخر التوبة فإنه يكتسب ذنباً جديداً.