للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأدلة من السنة على أن السنة وحي]

ثم نتحول إلى أدلة السنة نفسها على أن السنة وحي: فعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهَد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعاقبهم بمثل قراه)، وهذا الحديث صحيح؛ رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه.

فنلاحظ هنا قوله عليه الصلاة والسلام: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه.

أوتيت: فعل مبني للمجهول، والمعلوم منه (آتى)، يتعدى إلى مفعولين، مثل: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم:٣٠] (الياء) مفعولاً أولاً، و (الكتاب) مفعولاً ثانياً، فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام هنا: ألا إني أوتيت القرآن آتاني الله القرآن، فيكون المفعول الأول هو (الياء)، والمفعول الثاني هو (القرآن) والمعنى: أوحي إلي القرآن ومثله معه، وهذا يدل على أن مصدر الكتاب ومصدر المماثل له واحد، وحيث إن الله عز وجل هو الذي آتى نبيه الكتاب فهو سبحانه الذي آتى نبيه الشيء المماثل لهذا الكتاب، وهو السنة الشريفة.

فمعنى هذه المماثلة في قوله: (ومثله معه): إما أن تكون مماثلة في كونه وحياً، أي: كما أن القرآن وحي فالسنة مثله في كونها وحياً.

وإما أن تكون مماثلة في وجوب العمل بالسنة كالكتاب العزيز.

غير أن الاحتمال الأول تؤيده وترجحه الأدلة السابقة من القرآن الكريم، وأيضاً الأدلة التي سوف تأتي.

فحديث المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه أفاد أن السنة وحي مع القرآن، وأفاد التشنيع على من يقتصر على القرآن ويرفض السنة، كأفراخ هذا الزمان كـ مصطفى محمود وأمثاله من الجهلة الذين ما عُرفوا على الإطلاق بطلب العلم الشرعي، وليس لهم أي شيء في هذا الصناعة، فهؤلاء الذين يتطفلون على العلم الشرعي ولا يهتمون بذلك بل يتسورون عليه، يريدون أن يهدموا أصول الدين بالطعن في أحاديث متواترة كأحاديث الشفاعة، ويأتون بأشياء غير ذلك من ضلالات هذا الزمان التي لم نعد نستغربها؛ لكثرة ما نسمع المنحرفين والضالين عن هدي النبي عليه الصلاة والسلام.

وهذا الحديث أيضاً علم من أعلام النبوة؛ لأنه إخبار عن غيب، وقد وقع كما أخبر، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن هناك فرقة ضالة سوف تظهر اسمها: فرقة القرآنيين، وقد ظهرت كما تنبأ النبي عليه الصلاة والسلام.

وهؤلاء الذين يظهرون بين يوم وآخر ويطعنون في السنة ينطبق عليهم هذا الحديث.

وقوله: يوشك رجل شبعان على أريكته، هذه العبارة مفهومها يدل على منقبة عظمى لأهل الحديث، فأهل الحديث جهادهم ورحلاتهم في طلب العلم منصب في حراسة حديث الرسول عليه السلام، ولو تتبع الإنسان جهد أهل الحديث لوجد فيه الأعاجيب، وكيف أن الله سبحانه وتعالى حفظ الدين بتسخير أهل الحديث، وجهادهم الدءوب في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد اتصف أهل الحديث بأمور أساسية جداً، من ضمنها: الجوع والعطش، والفقر، والمعاناة الشديدة في الرحلة لطلب العلم، وفي هذا مصنفات مستقلة تبين أنهم عانوا الفقر والجوع والمرض والنصب في سبيل الرحلة؛ حيث كانوا يمشون آلاف الأميال على أقدامهم، كما فعل بقي بن مخلد حينما رحل على قدميه من الأندلس إلى بغداد؛ ليسمع من الإمام أحمد، فتخيلوا هذه المسافة! والأمثلة في ذلك كثيرة، فهم كانوا يرحلون في طلب العلم، وكانوا يقاسون في هذه الرحلة الشدائد، ويعانقون الفقر والجوع، وهناك قصص طويلة لا نريد أن نخرج عن الموضوع بذكرها.

لكن هؤلاء المكذبون الضالون الذين يطعنون في سنة النبي عليه الصلاة والسلام جمعوا النقيضين، فقوله: (رجل شبعان) فيه إشارة إلى أنهم مترفون، فلا سافروا، ولا جاهدوا، ولا نصبوا، ولا عطشوا، ولا مرضوا في طلب الحديث، فإلى أين رحل هؤلاء المكذبون الذين يطعنون في السنة؟ ما عرفوا بالرحلة على الإطلاق، ولا جثوا على ركبهم أمام العلماء أبداً، لكن سهل على أحدهم أن يتسور ويقفز من السور ويدَّعي أنه دخل في حوزة العلم الشرعي.

وقوله: (متكئ على أريكته) كما في بعض الروايات فيه إشارة إلى البطر، وأنهم ناس مترفون لا يسافرون، ولا هم مستعدون لأن يتعبوا، بل يريد أحدهم لكتاب البخاري أن يرميه في المحرقة، ويريد أن يطمس كل هذه الجهود بجرة قلم أو بكلمة تصدر منه أو بمقالة يكتبها في جريدة ترحب به وبأمثاله من الأبواق الضالة المنحرفة، وتشجعه على أن يمضي في الطعن، ثم يحدثون بالآراء الشاذة التي تدل على ضلالاتهم وشبهاتهم.

فتأملوا كلمة: (شبعان على أريكته)! يعني: أنه إنسان مترف ليس متفرغاً لطلب العلم، ولا يسهر، ولا يرحل ولا يسافر، ولا يمرض، ولا يفتقر، ولا يشرب بوله كما حصل من بعض علماء الحديث، حتى ينقذ نفسه وينقذ حياته وهو راحل في طلب العلم، فهو (شبعان) وجهاده (على أريكته)، فهو متكئ على الأريكة، ويكذب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الرجل تنبأ الرسول عليه الصلاة والسلام بظهوره، ومع هذا يقول: عليكم بهذا القرآن؛ فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه! والرسول عليه الصلاة والسلام يرد على هذا المبطل الكذاب بقوله: (وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله، بعدما قال: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، فأكد أن السنة مثل القرآن، فهي وحي آتاه الله إياه، ثم بعد ذلك تنبأ بهؤلاء القرآنيين الضالين.

ثم أعطى قاعدة عامة أيضاً مؤكداً ذلك فقال: إن ما حرم رسول الله كما حرم الله، ثم زاد على ذلك بأن أتى بقسم مهم جداً من أقسام السنة الثلاثة؛ لأن السنة على ثلاثة أقسام: إما أن تأتي مؤكدة لما ورد في القرآن، فيكون هذا من باب توارد الأدلة على المعنى الواحد.

وإما أن تأتي مفسرة للقرآن مبينة له، مقيدة للمجمل، مخصصة للعام، إلخ.

وإما أن تأتي السنة -وهذا أغرب الأقسام إلى أعداء السنة- بحكم مستقل غير موجود أصلاً في القرآن.

فمن ذلك ما ذكره هنا بقوله: (ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهَد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه -لم يبذلوا حق الضيافة- فله أن يعاقبهم بمثل قراه)، أي: يكون له حق فيما يماثل القرى والضيافة.

فالحديث أفاد أن السنة وحي مع القرآن، وأفاد التشنيع على من يقتصر على القرآن ويرفض السنة، وبين أحكاماً فرعية تستقل السنة بتشريعها وهي لم ترد في القرآن الكريم نصاً، وإنما جاءت في القرآن إحالة، بمثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧].

ومن ذلك أيضاً: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن؟! ألا إني قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء، إنها مثل القرآن أو أكثر).

وعن طلحة بن نضيلة قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عام سنة -عام قحط-: سعِّر لنا يا رسول الله! قال: لا يسألني الله في سنة أحدثها فيكم لم يأمرني بها؛ ولكن اسألوا الله من فضله).

ففي هذا أن الرسول امتنع من التسعير؛ لأنه لم ينزل عليه وحي بهذا التسعير، فيخشى أنه لو قال من عنده بدون وحي يكون قد أحدث فيهم شيئاً لم يأمره الله به، ومع ذلك سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنناً وبين أحكاماً ليست في القرآن، فدل هذا الحديث على أن ما تكلم به وحي، وأنه لم يحدثه من تلقاء نفسه.

ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (غفار غفر الله لها، وأسلم سلمها الله، ما أنا قلته؛ ولكن الله قاله)، وهل توجد آية في القرآن نصها: (غفار غفر الله لها، وأسلم سلمها الله)؟

الجواب

لا، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما أنا قلته؛ ولكن الله قاله).

وعن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله -يعني: بحكم الله-، وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم.

فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل، قال: إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني: أجيراً- فزنى بامرأته، وإني أُخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة -يعني: استعاض بدل رجمه بمائة شاة وجارية- فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله: الغنم والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس -لرجل من أسلم- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت).

وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

وهذا واضح تماماً أن هذا الحكم غير موجود في القرآن، وإنما هو في السنة، ومع هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لأقضين بينكما بكتاب الله).

وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه أنه كان يقول لـ عمر رضي الله عنه: (ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، فلما كان بالجعرانة سأله رجل فقال: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبته بعدما تضمخ بالخلوق -يعني: لطخ نفسه بالطيب- حتى كأنه يقطر منه؟ فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت، فجاء ا