[النهي عن الظن السيئ]
قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ))، أي: كونوا على جانب منه، وذلك بألا تظنوا بالناس سوءاً، فإن الظن غير محقق، فما دام الإنسان يظن فالظن ليس شيئاً محققاً، فلذلك ينبغي أن نجتنب كثيراً من الظن.
وأبهم (كثيراً) لإيجاد الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجس؛ إذ لا داعية تدعو المؤمن للمشي وراءه أو صرف الذهن فيه، بل من مقتضى الإيمان ظن المؤمنين بأنفسهم الحسن، قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:١٢].
نعم من أظهر فسقه وهتك ستره فقد أباح عرضه للناس، ومنه ما روي: (من ألقى غربال الحياء فلا غيبة له)، ولذا قال الزمخشري: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنباها عما سواها أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر؛ فظن الفساد والنسيان به محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث.
((إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ))، وهو ظن المؤمن بالمؤمن الشر لا الخير، أما أن تظن بأخيك خيراً فليس منهياً عنه، بل من حق المؤمن أن تظن به الخير.
(إثم) أي: مكسب للعقاب؛ لأن فيه ارتكاب ما نهي عنه.
قال الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء في بيان تحريم الغيبة بالقلب: والغيبة بالقلب هي تعبير عن سوء الظن؛ لأنه هناك غيبة باللسان، وهناك غيبة بالقلب، وهي هذه الهواجس التي تطرأ في فكر الإنسان وفي عقله تجاه أخيه.
يقول رحمه الله: اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول، فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك.
قال: ولست أعني به إلا عقد القلب، وحكمه على غيره بسوء الظن، وذلك بأن يعقد قلبه على هذا الظن السيئ، ويحكم على أخيه بسوء الظن.
فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه، بل الشك أيضاً معفو عنه، لكن الذي يحرم على الإنسان هو أن يعقد قلبه على ظن السوء بأخيه، ويحكم على أخيه بسبب هذا الظن.
ولكن المنهي عنه أن يظن، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب، فقد قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ))، قال: وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب.
فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، فعند ذلك لا يمكنك ألا تعتقد إلا ما علمت وشاهدت بنفسك، وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك، فإنما يلقيه إليك الشيطان.
وللأسف الشديد هذا شائع في مجتمعنا، أعني: سهولة تداول الطعن في الأعراض في المجالس، فما أن تقع خطوبة بين طرفين أو يفتح الكلام على ذلك ولو لم يتحقق، حتى تجد من يقبل هذا الكلام، وربما حققه وقطع به، وبنى عليه أحكامه، ثم يشيعها في الناس، هذا شائع وموجود! فهذا من الظلم، وهذا مما يخالف هذا التوجيه القرآني.
ومن الناس من يتلقى الخبر من الجرائد ومن المشاهدة للإعلام فيظل يروج بكلام كثير جداً، فينبغي أن يتحرى المؤمن هذا الذي ينقله أو يبني عليه أحياناً، ولابد من تجنب الظنون السيئة ما لم يشاهد بعينه ولم يسمع بأذنه.
وتجد من الناس من يتساهل في الكلام فيحكي كلاماً هو إثارة للريبة في بعض الناس، ولا نريد أن نذكر أمثلة لأنها مؤذية، لكن يكفي أن نتسلح بهذا الفهم، فعلى الإنسان أن لا يتكلم إلا إذا كان له بينة شرعية.
يقول: فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف بعيان لا يقبل التأويل، لأننا نحن البشر بل كل الخلق لا يستطيع أحد منهم أن يطلع على أسرار القلوب، فأسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى، أما البشر فليس لهم إلا الظاهر، فإذا ظهر من شخص شيء وبان لك عياناً ببينة، فهنا يحق لك أن تظن ما يليق بهذا الذي ظهر منه، أما إذا لم يظهر منه شيء ولا أمارة صحيحة على ذلك فليس من حقك أن تظن به، وإلا فقد ظلمته واستحققت عقاب الله تبارك وتعالى.
فما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق.
وهذه إشارة إلى قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:٦].
فالظن الذي يلقيه الشيطان في قلبك عن أخيك، وليس لك عليه بينة ولم تشاهد بعينك ولم تسمع بأذنك فاعلم أن الذي يلقيه ينصه في قلبك هو الشيطان، فيجب عليك أن تكذب الشيطان، لأنه أفسق الفساق، إذ هو أحق الخلق بقول الله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا))، كراهية ((أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))، لأن المؤمن إذا أذنب ندم.
إلى أن قال: فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال، وهو بعين مشاهدة أو ببينة عادلة.
انتهى كلام الغزالي رحمه الله.