ذكر العلامة الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى من باب الشيء بالشيء يذكر؛ بمناسبة الكلام على أنهم صاروا عاكفين حول هذا العجل يعبدونه فذكر بهذه المناسبة ما يفعله بعض الصوفية من ذلك مما سيذكره؛ يقول رحمه الله تعالى: قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآيات الكريمات ما نصه: سئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية، واعلم حرس الله مدته! أنه اجتمع جماعة من رجال يكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم -يعني: نوع من الإيقاع من الموسيقى- ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه- يذكرون الله ويذكرون الرسول عليه السلام، ويحضرون شيئاً يأكلونه، هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين، وهذا القول الذي يذكرونه: يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل واعمل لنفسك صالحاً ما دام ينفعك العمل أما الشباب فقد مضى ومشيب رأسك قد نزل وفي مثل هذا ونحوه الجواب يرحمك الله! مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفار وعباد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من حضور المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا أن يعينهم على باطلهم.
هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق.
انتهى منه بلفظه.
وعلق الشنقيطي رحمه الله تعالى بقوله: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد قدمنا في سورة مريم ما يدل على أن بعض الصوفية على الحق، ولا شك أن منهم من هو على الصراط المستقيم من العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك عالجوا أمراض قلوبهم وحرسوها وراقبوها وعرفوا أحوالها، وتكلموا على أحوال القلوب كلاماً مفصلاً كما هو معلوم؛ كـ عبد الرحمن بن عطية وابن أحمد بن عطية وابن عسكر أعني أبا سليمان الداراني وكـ عون بن عبد الله الذي كان يقال له: حكيم الأمة.
وكـ سهل بن عبد الله التستري، وأبي طالب المكي وأبي عثمان النيسابوري ويحيى بن معاذ الرازي والجنيد بن محمد ومن سار على منوالهم؛ لأنهم عالجوا أمراض أنفسهم بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يحيدون عن العمل بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، ولم تظهر منهم أشياء تخالف الشرع، فالحكم بالضلال على جميع الصوفية لا ينبغي ولا يصح إطلاقه، والميزان الفارق بين الحق والباطل في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان منهم متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وهديه وسمته، كمن ذكرنا وأمثالهم فإنهم من جملة العلماء العاملين، ولا يجوز الحكم عليهم بالضلال، وأما من كان على خلاف ذلك فهو الضال، نعم صار المعروف في الآونة الأخيرة وأزمنة كثيرة قبلها بالاستقراء أن عامة الذين يدعون التصوف في أقطار الدنيا -إلا من شاء الله منهم- دجاجلة يتظاهرون بالدين ليضلوا العوام الجهلة وضعاف العقول من طلبة العلم؛ ليتخذوا بذلك أتباعاً وخدماً وأموالاً وجاهاً، وهم بمعزل عن مذهب الصوفية الحق، لا يعملون بكتاب الله ولا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واستعمارهم لأفكار ضعاف العقول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين، فيجب التباعد عنهم والاعتصام من ضلالتهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو ظهر على أيديهم بعض الخوارق، ولقد صدق من قال: إذا رأيت رجلاً يطير وفوق ماء البحر قد يسير ولم يقف عن حدود الشرع فإنه مستدرج أو بدعي والقول الفصل في ذلك هو قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا * وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [النساء:١٢٣ - ١٢٥].
فمن كان عمله مخالفاً للشرع كمتصوفة آخر الزمان فهو الضال، ومن كان عمله موافقاً لما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام فهو المهتدي؛ نرجو الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المؤمنين، وألا يزيغنا ولا يضلنا عن العمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي هي محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
((قَالَ يَبْنَؤُمَّ)) أي: قال هارون (يا ابن أم) أو (يا ابن أم) أي: بكسر الميم أو فتحها في (أم)، وذكرها أعطف لقلبه {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي}[طه:٩٤] يعني: لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي، وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضب موسى لله وغيرته على حرمات الله، ((إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: بتركهم لا رأي لهم، ((وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي))، أي: لم تراع في الاستخلاف والقعود بين ظهرانيهم.