[معنى (الذي) في قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما)]
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي}[الأحقاف:١٧]، يقول: التحقيق -إن شاء الله- أن الذي في قوله تعالى:(والذي قال لوالديه) بمعنى: الذين، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبعث، والدليل من القرآن على أن (الذي) بمعنى: الذين، وأن المراد به العموم، وأن الذي في قوله تعالى:(والذي قال لوالديه) مبتدأ وخبره: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ))، فالذي: مبتدأ، وأولئك هي الخبر، والإخبار عن لفظة الذي في قوله:(أولئك الذين حق عليهم القول) بصيغة الجمع صريح في أن المراد بالذي العموم لا الإفراد، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وبهذا الدليل القرآني نعلم أن قول من قال في هذه الآيات الكريمة: إنها نازلة في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ليس بصحيح كما جزمت عائشة رضي الله عنها ببطلانه، وفي نفس آية الأحقاف هذه دليل آخر واضح على بطلانه، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا بتلك المقالة حق عليهم القول، وهو قوله:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}[الأحقاف:١٨]، ومعلوم أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم وحسن إسلامه، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة رضي الله عنهم، وغاية ما في هذه الآية الكريمة إطلاق (الذي) وإرادة (الذين)، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب؛ لأن لفظة:(الذي) مفردة ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها؛ لأن (الذي) من صيغ العموم، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم كما أشار إليه في مراقي السعود في قوله: صيغه كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع إشارة إلى أن من صيغ العموم صيغة كل، وصيغة الجميع، وقوله:(وقد تلا الذي التي) الذي هي اسم موصول، وكذلك والتي أيضاً، والفروع: فروعهما اللذان واللتان وهكذا.
فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف، وقوله تعالى في سورة البقرة:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا}[البقرة:١٧]، في التفسير نقول: كمثل الذين استوقدوا ناراً، بدليل قوله تعالى بعد ذلك:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}[البقرة:١٧].
وقوله أيضاً في البقرة:{كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}[البقرة:٢٦٤] تفسيرها: كالذين ينفقون، بدليل أنه قال:{لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا}[البقرة:٢٦٤] بالجمع، وقال في الزمر:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[الزمر:٣٣]، كذلك قال في التوبة:{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}[التوبة:٦٩] أي: كالذين خاضوا، بناءً على أنها موصولة لا مصدرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة: فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد والمقصود: الذين، لأنه قال: هم القوم.
وقول عدي بن الفرح العزي: وبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي وقول الراجز: يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد إلا الذي قاموا بأطراف المسد يعني: إلا الذين قاموا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:(والذي قال لوالديه أف لكما)، أف: كلمة تضجر، وقائل ذلك عاق لوالديه غير مجتنب نهي الله تعالى في قوله:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}[الإسراء:٢٣].
{أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[الأحقاف:١٧] الأساطير: جمع أسطورة، وقيل: جمع إسطارة، ومراده بها ما سطره الأولون، أي: ما كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها.