تفسير قوله تعالى: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم)
{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} [آل عمران:٤٩].
((وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: ونجعله رسولاً، (ورسولاً) منصوب بمضمر يقود إليه المعنى، معطوف على: ((وَيُعَلِّمُهُ)).
((إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: إلى جميع بني إسرائيل، فالمسيح عليه السلام ما أرسل إلا إلى بني إسرائيل، وهو نفسه قال ذلك حتى في الإنجيل الذي بين أيديهم: (إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل الضالة).
ما أرسل نبي من الأنبياء إلى جميع البشر، إنما اختص بذلك خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما الأنبياء فكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، فموسى عليه السلام كان رسولاً إلى بني إسرائيل: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:١٧]، كان كل طلبه من فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل.
كذلك المسيح عليه السلام إنما كان رسولاً إلى بني إسرائيل، وإنما بولس الخبيث أو شاول كان يهودياً وهو الذي أفسد الديانة النصرانية، وكان يعذب النصارى ويضطهدهم أشد الاضطهاد، ثم تظاهر بولس بالدخول فيها ليفسدها.
فهو الذي ابتدع مسألة الذهاب في أقطار الأرض ليعمدوا النصرانية وينشروها باسم كذا وكذا، وموضوع التبشير الذي ابتدعه بولس الخبيث تحت زعم أنه حصل له رؤيا أو كشف أو شيء من هذا، فيمكن أن يكون من الشفافية، ويمكن أن يكون كذاباً؛ لأنه نفسه كان شيطاناً.
على أي الأحوال فالمسيح عليه السلام ما بعث إلى البشرية كلها، وما يسمى الآن بالتبشير ودعوة الناس إلى النصرانية كله افتراء وباطل؛ لأن المسيح لم يبعث إلى القبط ولا إلى الفرنجة ولا إلى كذا وكذا، وإنما بعث إلى قومه بني إسرائيل فقط، أما الديانة التي ينبغي أن تكون عالمية فهي ديانة واحدة فقط وهي الإسلام، ودعوة واحدة وهي دعوة رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
((وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ))، أي: في الصبا أو بعد البلوغ، فنفخ جبريل في جيب درعها، وجيب درعها هو فتحة الصدر، فحملت، وكان من أمرها ما ذكر في سورة مريم.
فلما بعثه الله إلى بني إسرائيل قال لهم: ((أَنِّي)) أي: بأني رسول الله إليكم، ((قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ))، الآية هي العلامة على صدقه، وهي ليست آية واحدة بل آيات متعددة، فالتنكير هنا للتفخيم، والجار متعلق بمحذوف وقع حالاً، أي: جئتكم متلبساً ومحتجاً بآية من ربكم، وهي علامة على صدقي.
قوله: (أَنِّي) وفي قراءة بالكسر استئنافاً، أي: (بآية من ربكم إني أخلق لكم).
((أَخْلُقُ)) أي: أصور.
فلا يصح هنا إلا أن نفسر كلمة: (أَخْلُقُ) بمعنى: أصور؛ لأنه لا يجوز إسناد فعل الخلق بمعنى الإيجاد إلى غير الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى كما قال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:١٦]، وقال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:٣]، فلا خالق على سبيل الإيجاد إلا الله سبحانه وتعالى، وما فعله المسيح عليه السلام كانت معجزات أجراها الله تعالى على يديه؛ تصديقاً له ليؤمن بنو إسرائيل برسالته ويتبعوه.
((أَنِّي أَخْلُقُ لكم)) أي: أصور لكم.
((مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)) أي: مثل هيئة الطير، فالكاف هنا اسم مفعول.
((فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ))، الضمير هنا يعود على الكاف الذي في قوله: (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ).
((فَأَنفُخُ فِيه)) أي: في المصور الذي هو مثل هيئة الطير.
((فَيَكُونُ طَيْرًا)) أي: حقيقياً ذا حياة، وفي قراءة: (فيكون طائراً).
((بِإِذْنِ اللَّهِ)) أي: بإرادته وأمره لا باستقلال مني.
يقول السيوطي: فخلق لهم الخفاش؛ لأنه أكمل الطير خلقاً، يطير وهم ينظرونه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً؛ ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق.
وهذا الكلام يحتاج إلى خبر مرفوع إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم.
((وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ))، أي: أشفي، ((الأَكْمَهَ)) الذي ولد أعمى.
((وَالأَبْرَصَ)) وخصا بالذكر؛ لأنهما داء إعياء، وكان بعثه في زمن الطب.
فأبرأ في يوم خمسين ألفاً بالدعاء بشرط الإيمان.
أي: أنه اشترط عليهم إذا دعوت الله فشفاكم أن تؤمنوا، فوافقوا.
فيقول: فأبرأ بإذن الله في يوم خمسين ألفاً، والله تعالى أعلم بصحة ذلك.
((وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ))، كرره لنفي توهم الألوهية فيه؛ لأن هذه معجزات قاهرة فعلية، فأحيا عاذر صديقاً له، وابن العجوز، وابنة العاشر، أي ابنة الذي كان يجبي الضرائب والعشر، فعاشوا وولد لهم، وأحيا سام بن نوح ومات في الحال.
وكل هذا الكلام من الإسرائيليات التي تحتاج إلى نوع من التحفظ.
((وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ))، أي: مما تخبئون مما لم أعاينه، فكان يخبر الشخص بما أكل وبما لم يأكل بعد، ولم يقل هنا: بإذن الله؛ لأنه علم من السياق أن هذا كله إنما هو بإذن الله عز وجل، فاستغنى عن إعادته لشدة ظهوره.
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ}، أي: هذا المذكور فيه دلالة لكم على صدقي في دعوى الرسالة.