[تفسير قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم)]
فسر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (طريق الهجرتين)، هذه الأسماء الأربعة تحقيقاً، وبين كيفية التعبد عن طريق هذه الأسماء الأربعة، وتكلم بكلام كلام قيم جداً، وهو طويل في الحقيقة، لكن نجتزئ منه ما تيسر.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مبيناً كيف نعبد الله بالتأمل في اسمه (الأول) قال: فعبوديته باسمه (الأول) تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها، فإذا حققت في قلبك معنى الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى هو الأول الذي لا شيء قبله كما فسرها النبي عليه الصلاة والسلام: (أنت الأول فليس قبلك شيء) فمعنى ذلك أنه الخالق وهو المسبب لكل شيء.
والأسباب مخلوقة، فإذا حققت الاسم الأول فيقتضي ذلك أن تتجرد من التعلق بالأسباب، وليس معنى هذا أننا لا نأخذ بالأسباب؛ بل نأخذ بالأسباب ولكن لا نتوكل على الأسباب، وإنما التوكل يكون على الله سبحانه وتعالى الذي هو المسبب الحقيقي؛ لأن الإعراض عن الأسباب قدح في الشرع، والتعلق بالأسباب قدح في التوحيد؛ لأن الشرع أمر بالأخذ بالأسباب، والتعلق بالأسباب دون الله سبحانه وتعالى قدح في التوحيد.
يقول: فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته.
فإن الله الأول قبل كل شيء، فهو الذي سبَّب كل شيء، وخلق كل شيء، فتعلق بالمسبب وهو الله سبحانه وتعالى.
قال: وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك؟ وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه وتعالى الإعداد ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أخرى، فمن نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقراً خاصاً وعبوديةً خاصة.
وعبوديته باسمه الآخر تقتضي أيضاً عدم ركونه ووثوقه بالأسباب، فإنها تنعدم لا محالة، وتنقضي في الآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها.
يعني: كل ما عدا الله له آخر؛ لكن الله سبحانه وتعالى هو وحده الآخر الذي لا شيء بعده، فما عدا الله سبحانه وتعالى من الأسباب تنقضي وتفنى بالآخرية لا محالة، ويبقى الدائم الباقي بعدها.
قال: فالتعلق بها -أي: بالأسباب- تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق ألا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به، كذا نظر العارف إليه بسبق الأولية حيث كان قبل الأسباب كلها، وكذلك نظره إليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه.
فتأمل عبودية هذين الاسمين، وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون هو وحده غايته ونهاية مقصوده.
فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبوديتها وإرادتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ.
فكما كان واحداً في إيجادك فاجعله واحداً في تألهك إليه؛ لتصح عبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه، فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك إليه؛ لتصح لك عبوديته باسمه الأول والآخر.
وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأول.
يعني: أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، ويقرون باسم الأول الذي بدأ كل شيء: بدأ الخلق، وبدأ الرزق، وبدأ أفعال الربوبية والتنمية والرعاية والإحسان إلى الخلق.
وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر -يعني: بأن تعبده وحده لا شريك له- فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده.
وأما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء).