[فوائد بلاغية ولغوية]
من فوائد هذه القصة: إطلاق لفظ القرية على المدينة: لقوله: ((أَهْلَ قَرْيَةٍ))، ثم قال بعد ذلك: ((لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ)) فدل على أن المدينة يطلق عليها قرية، وورد في الحديث أن موسى عليه السلام لم يقل: (لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)، إلا بعد أن جاوز الموضع الذي حدده الله تعالى له، فلعل الحكمة أن يتيقظ موسى عليه السلام لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة الله في التيسير عليه وحمل الأعباء عنه، وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات أن ييسرها ويحمل عنه مؤنتها، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة.
وموضع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزة هذا الموعد بوناً بيناً والله تعالى أعلم.
يعني: أن موسى لم يشعر بالتعب إلا بعد أن جاوز المكان الذي حدده الله له، وهو الصخرة أو مجمع البحرين، وكأن الله ينبهه: أنك ما دمت مسافراً في طلب العلم فأنا أُذهب عنك النصب والمشقة وأيسر عليك الأمر، فلما جاوز ذلك الموضع حصل له النصب {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:٦٢].
وإن كان موسى عليه السلام متيقظاً لذلك، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا قص عليهم القصة، وما أورد الله تعالى قصص أنبيائه إلا ليشمر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها عاجلاً وآجلاً، والله أعلم.
ثم قال الناصر رحمه الله في الانتصاف: ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار الحمية للحق.
أي أن موسى ما أنكر إلا غيرة على الحق على ظاهر شريعته، ثم إنه حين خرق السفينة قال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:٧١]، فنسي نفسه واشتغل بغيره في الحالة التي يقول فيها كل أحد: نفسي نفسي، لا يلوي على مال ولا ولد، فتلك حالة غرق.
فالشاهد: أن موسى عليه السلام ما قال: نفسي نفسي! وإنما كان همه الناس من حوله {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:٧١] ولم يقل: (لتغرقنا)، فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة عليهم، صلوات الله عليهم أجمعين وسلامه.
ثم قال عليه الرحمة على قول الزمخشري: (فإن قلت: (فأردت أن أعيبها)، كان من المفروض من حيث سياق المعنى أن يقول: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً فأردت أن أعيبها) فلماذا قدم فعل الغصب رغم أن النتيجة حقها أن تؤخر عن السبب؟ قلت: النية به التأخير، وإنما قدم للعناية، ولأن خوف الغصب ليس السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين، فكان بمنزلة قولك: زيد ظني مقيم).
قال الناصر: كأنه جعل السبب في إعابتها كونها للمساكين، ثم بين مناسبة هذا السبب للمسبب بذكر عادة الملك في غصب السفن، وهذا هو حدّ الترتيب في التعليل، أن يركب الحكم على السبب، ثم يوضح المناسبة فيما بعد، فلا يحتاج إلى جعله مقدماً والنية تأخيره، والله أعلم.
ثم قال: ولقد تأملت من فصاحة هذه الآية والمخالفة بينها في الأسلوب عجباً؛ ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله: ((فأردت أن أعيبها)) وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه فقال: ((فأردنا أن يبدلهما ربهما))، وقال: ((فخشينا أن يرهقهما)) ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى؛ لأن المراد: ثم عبت، فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه، وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور (فأردنا) (فخشينا) فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك: أمرنا بكذا، وإنما يعنون أمر الملك.
ويدل على ذلك قوله في الثالثة: ((فأراد ربك أن يبلغا أشدهما)) فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب ولم تأت على نمط واحد مكرر يمجها السمع وينبو عنها، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة، فسبحان اللطيف الخبير! فإذا الثالثة قال الخفاجي في إعادة (أهل)، يعني قوله: ((استطعما أهلها))، بعدما قال: ((أتيا أهل قرية)) مع أن السياق كان يقتضي أن يقال: (حتى إذا أتيا أهل قرية فاستطعماهم فأبوا أن يضيفوهما)، ونظم الصلاح الصفدي سائلاً الإمام السبكي عن هذا المعنى، فقال: رأيت كتاب الله أعظم معجز لأفضل من يهدى به الثقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاصه بإيجاز ألفاظ ونصح معان ولكنني في الكهف أبصرت آية بها الفكر في طول الزمان عناني وما هي إلا (استطعما أهلها) فقد نرى (استطعماهم) مثله ببيان فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر مكان ضمير إن ذاك لشان يعني أنه عدل عن الظاهر بإعادة لفظ (أهل) ولم يقل (استطعماها) أو (استطعماهم) فلابد له من وجه.
وقد أجابوا بأجوبة مطولة نظماً ونثراً، والذي تحرر فيه: أنه ذكر الأهل أولاً ولم يحذف إيجازاً سواء قدر أو تجوز في القرية، كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:٨٢]؛ لأن الإتيان ينسب للمكان كما تقول: أتيت عرفة، ولمن في المكان تقول: أتيت بغداد، فلولم يذكر كان فيه التباس مخل، فليس ما هنا نظير تلك الآية، لامتناع سؤال نفس القرية، فلا يستعمل استعمالها.
يعني لم يقل كما قال في سورة يوسف: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:٨٢]؛ لأنه ظاهر جداً أن المقصود أهل القرية.
وأما الأهل الثاني (استطعما أهلها) فأعيد لأنه غير الأول، وليست كل معرفة أعيدت عيناً كما بينوا؛ لأن المراد به بعضهم إذ سؤالهم فرداً فرداً مستبعد، فلولم يذكر فهم غير المراد، وأما لو قيل: (استطعماهم) فظاهر، وأما لو قال (استطعماها)؛ فإن النسبة إلى المحل تفيد الاستيعاب.