[معنى قوله: (ثم يتوبون من قريب)]
(ثم يتوبون من قريب) يعني: من زمان قريب، وظاهر الآية اشتراك وقوع التوبة عقب المعصية بلا تراخ، يعني: أن التوبة من أي معصية واجبة على الفور لا على التراخي.
وهذا ما عبر عنه ابن القيم في كتابه الرائع (مدارج السالكين) الجزء الأول حينما قال: تأخير التوبة أو تسويف التوبة ذنب يجب التوبة منه.
تأخير التوبة في حد ذاته ذنب، يجب التوبة منه على الفور، فكذلك هنا قوله: (ثم يتوبون من قريب) يعني: يجب أن يسارع إلى التوبة مباشرة بعد المعصية، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده.
فإذا كانت التوبة من زمان قريب فهي بذلك تنال درجة قبولها المحتم تفضلاً، إذ بتأخير التوبة وتسويفها يدخل في زمرة المصرين.
فيكون في الآية إرشاد إلى المبادرة بالتوبة عقب الذنب، والإنابة إلى المولى بعده فوراً.
ووجوب التوبة على الفور مما لا يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من صميم الإيمان، وهو واجب على الفور، أما ما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى: (من قريب) يعني: ما قبل حضور الموت فهو بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه.
فهنا القاسمي رحمه الله تعالى يذهب إلى مرجوحية القول بأن قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} يعني: من زمن قريب من زمن المعصية، يعني: أنه يبادر فوراً إلى التوبة؛ لأنه إذا سوف التوبة وأخرها فهذا معناه أنه داخل في زمرة الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون.
يقول: إنما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى: (من قريب) ما قبل حضور الموت فهو بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه، وإنما تعني: المبادرة إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عياذاً بالله تعالى، لكن هل المعنى الآخر هو أن التوبة تقبل ما لم يغرغر العبد؟ هل هذا المعنى صحيح أم غير صحيح؟ قطعاً هو صحيح، لكن نقول: لا يصح الاستدلال بهذه الآية على قبول التوبة قبل حضور الأجل وبالحديث الذي فيه: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) الحديث دليل واضح في المسألة، وكذلك بهذه الآية التي تلي السابقة مباشرة وهي قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:١٨].
قلنا: يستفاد من الآية السابقة، ومن الأحاديث الوافرة في ذلك، لا من قوله تعالى: (من قريب)؛ وذلك لأن الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ}، صريحة بأن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراءه في حيز القبول، كل ما قبل حضور الموت داخل في حيز قبول التوبة، أما إذا حضر الموت فليست هناك توبة؛ فقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).
وروى أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: (من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه قال أيوب فقلت له: إنما قال عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}، فقال: إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)، أجل التوبة في عمر الدنيا كلها تنتهي بطلوع الشمس من مغربها، {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:١٥٨]، يغلق باب التوبة إذا طلعت الشمس من مغربها، فهذا في حق عمر الدنيا كلها، أما في حق عمر كل إنسان فالتوبة تقبل ما لم يغرغر، وهي واجبة عليه بمجرد الوقوع في المعصية، لا يجوز له تأخيرها وتسويفها؛ لأن تسويفها ذنب جديد، بل يجب المبادرة إلى التوبة.
وروى الحاكم مرفوعاً: (من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه).
وروى ابن ماجة عن ابن مسعود بإسناد حسن: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
(فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي: يقبل توبتهم.
(وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).