تفسير قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب)
ثم يقول تبارك وتعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام:١١٤].
قوله: (أفغير الله) يعني: قل لهم يا محمد -صلى الله عليه وسلم-: أأميل إلى زخارف الشياطين، وأعدل عن الطريق المستقيم؛ فأطلب حكماً غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق من المبطل؟! وقوله: (أفغير الله أبتغي حكماً) الحكم: هو الذي يتحاكم الناس إليه باختيارهم ويرضون بحكمه وينفذونه، وهنا يوجد تقدير للقول، أي: أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل؟! والمعنى: أأطلب معبوداً غير الله؟! وقوله: (أبتغي حكماً) يعني: أطلب معبوداً.
لأنهم كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم.
يقول القاسمي: هذا عندي أظهر.
يعني أن المقصود بقوله تعالى: ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) أي: أبتغي معبوداً؛ لأن من خصائص الإله أن يتحاكم إليه، فهم كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم، وأنا لا يمكن أن أتحاكم إلا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأني إذا تحاكمت إلى غيره فكأني اتخذته معبوداً من دون الله تبارك وتعالى.
ولذلك جاء في (تنوير المقباس) في قوله تعالى: ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) قال في تفسيرها: أعبد رباً.
أما كون الآيات واردة على قولهم: اجعل بيننا وبينك حكماً فلا يصح؛ لأنهم بمعزل عن الانصياع لذلك، ولأنهم لا يمكن أن ينصاعوا لشرع الله كحكم.
ثم قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا)) (الكتاب) يعني القرآن المعجز (مفصلاً) يعني: فيه كل ما يصح الحكم به، أنزله مبيناً به الفصل بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون.
وكثير من أهل البدع والضلال يحاولون أن ينحرفوا بتفسير القرآن والسنة؛ لأنهم يجعلون البدع التي اخترعوها هي الأصل، ثم يجعلون القرآن والسنة فرعاً، ويستدلون بالأدلة بعد تحريف معانيها أو تفسيراتها للتمويه على الناس وإسناد باطلهم.
وآيات القرآن يمكن أن تكون طيعة، بمعنى أنه إذا لم يتكلم الإنسان عن علم فلا نملك أن نحجزه عن أن ينطلق بهواه بتفسير آيات القرآن بأي صورة فيها انحراف، ولذلك يقول الشاعر: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل ولذلك فإن المنهج السلفي يتميز بالأخذ بالقرآن والسنة على فهم السلف الصالح، ويضاف هذا الضابط حتى يتميز أهل السنة عن أهل البدعة؛ لأن كل الفرق تستدل على ضلالتها غالباً بالقرآن والسنة، لكن بفهم مخالف لفهم السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
قال الإمام السيوطي في (الإكليل): استدل الخوارج بهذه الآية ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) على إنكارهم التحكيم، وبذلك كفروا أمير المؤمنين علياًً رضي الله تعالى عنه لأنه قبل التحكيم.
قال -أي: السيوطي -: وهو مردود؛ فإن التحكيم المنكر هو أن يريد حكماً يحكم بغير ما حكم الله تعالى به.
ومن راجع كتاب: (تلبيس إبليس) في مناظرة ابن عباس مع الخوارج فسيجد التفاصيل في ذلك، فهم قالوا: لا حكم إلا لله.
وفهموا بعقولهم الضعيفة أن قوله تعالى: ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) يعني إبطال التحكيم مطلقاً، وإنما المقصود إبطال التحكيم الذي يصادم شرع الله، أو الذي فيه حكم بغير ما أنزل الله، أما أن تلجأ إلى حكم يحكم بينك وبين غيرك بما أنزل الله فما هذا إلا مظهر من مظاهر التوحيد والانقياد لشرع الله، وليس هذا مضاداً لشرع الله، ولذلك أفحمهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالآية التي في سورة المائدة، والتي فيها كفارة قتل المحرم الصيد، وهي قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:٩٥]، فإذا كان هذا في دم أرنب أمر الله سبحانه وتعالى فيه بالتحكيم فكيف بما هو أعظم من ذلك من القتال الذي كاد أن يقع بين المسلمين؟! ومن شاء التفاصيل فليرجع إلى (تلبيس إبليس) ففيه حكاية المناظرة بالتفصيل.
إذاً: فمعنى الآية ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) يرد به على الخوارج؛ لأن المراد بالتحكيم المذكور هو أن تريد حكماً يحكم بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى، وهذا -للأسف الشديد- ينطبق على بعض الناس في كثير من المناطق التي يخير فيها بين الحكم بالشرع، وبين الحكم بالأعراف والقوانين الوضعية، أو بقول القبائل ونحو هذه الأشياء، فأي مسلم يعرض عليه مثل هذا لا يجوز له إلا أن يقول للشرع: سمعنا وأطعنا.
ولا يتصور أبداً أن المؤمن يقبل الخيار أصلاً كمبدأ.
والحكم أبلغ من الحاكم، وأدل على الرسوخ، فوصف الحكم أقوى من وصف الحاكم؛ لأنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم، بخلاف الحاكم.
وفي هذه الآية الكريمة تنبيه على أن القرآن الكريم كافٍ في أمر الدين، ومغنٍ عن غيره ببيانه وتفصيله، وهذه الآية مثل قوله تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:٨٩]، وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:٣٨] وتقدم أن قلنا: إن الكتاب هو القرآن الكريم، وكذلك هنا.
وقوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا)) يعني: يتضمن كل شيء وهل معنى ذلك أن تستدل بالآية -كما فعل الضالون ممن يسمون زوراً بالقرآنيين- على عدم الاحتجاج بالسنة؟!
الجواب
كلا، بل نقول: إن مما دل على حجية السنة القرآن الكريم نفسه، فهو الذي دلنا على أن السنة حجة كالقرآن الكريم.
ثم يقول تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ))، قوله: (والذين آتيناهم الكتاب) يعني: الذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبلك.
والله لم يعطهم كتباً في أيديهم، وإنما أعطاهم علم الكتب المنزلة من قبل، كعلماء اليهود والنصارى، ولنتأمل كلمة (علماء) ولا نقول: مقلدة؛ لأن الكلام هنا في حق العلماء، أما غيرهم فقال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:٧٨] وأي أنهم مقلدون.
أما الذين نتحدث عنهم هنا والذين يصفهم الله بذلك فهم الذين يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، وهم علماء أهل الكتاب.
فقوله: ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ)) يعني: الذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبله صلى الله عليه وسلم، كعلماء اليهود والنصارى دون المقلدين منهم، فهؤلاء العلماء يعلمون أن هذا الكتاب منزل عليك من ربك بالحق.
ولماذا خص بالذكر علماء أهل الكتاب؟ وكذلك في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:١٠] والمقصود بالشاهد عبد الله بن سلام كبير أحبار اليهود، فلماذا خصهم بالذكر؟ والجواب أن بيان هذا الأمر من وجهين: الوجه الأول: أن العالم بالشيء يميز بين ما كان منه وما لم يكن، ونحن نتكلم عن علماء أهل الكتاب الذين يعلمون، وليس عن المقلدين؛ لأن العالم بالشيء هو الذي يستطيع أن يميز بين ما كان منتمياً إلى العلم الذي علموه وبين ما كان أجنبياً عنه، فمثلاً: لو ألف رجل كتاباً في الطب فسيكون الأطباء هم أعلم الناس بكونه طبيباً؛ لأنهم هم الذين يستطيعون أن يحكموا عليه.
ومن ألف كتاباً في النحو سيكون أعلم الناس بكونه نحوياً هم علماء النحو، لا عموم الناس ولا المقلدون.
وكذلك المؤمنون بالوحي العالمون بما أنزل الله تبارك وتعالى على أنبيائه من هذا الوحي يعلمون أن هذا القرآن من جنس ذلك الوحي، ولذلك لما قرأ جعفر بن أبي طالب في الحبشة على النجاشي سورة مريم قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
فمن جاء بسورة من القرآن الكريم حتى لو كانت ثلاث آيات وهو من العلماء يُعرف أن هذا ليس من كلامه، فكيف برجل أمي لم يقرأ من قبل ولم يكتب عليه الصلاة والسلام، ولذلك يقول تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:٤٨]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:١٩٧].
الوجه الثاني في سبب الإشارة إلى علماء أهل الكتاب: أن في الكتب الأخيرة كالتوراة والإنجيل بشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تخفى على علمائهما في زمنه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٤٦] ويقول تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)) أي: لما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين، ولتصديقه ما عندهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يمارس كتبهم، ولم يخالط علماءهم، وهذا تقرير لكونه منزلاً من عند الله، كما قال سبحانه: ((يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ))، أي: أن الذين وثق بهم المشركون من علماء أهل الكتاب عالمون بأحقيته ونزوله من عنده تعالى.
وقوله تعالى: ((فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)) أي: في أنه منزل من ربك بالحق، بسبب جحود أكثرهم وكفرهم به، فهذا من باب التهييج والإلهاب، وليس معنى ذلك أنه يحتمل أن يطرأ الريب أو الشك على النبي صلى الله عليه وسلم، حاش