[حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له]
الموقف الأخير الذي نتعرض له في هذه القصة قول الراوي: (ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -أي: يلاحظ تصرفاتهم بعينيه- فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً صلى الله عليه وسلم، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده! وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها).
قوله: (فجعل يرمق) يعني: يلحظ، (أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه)، وكأن الصحابة أرادوا أن يلقنوه الدرس الثاني بعد ما لقنه أبو بكر الدرس الأول لما قال: (وإني لأرى حولك أوباشاً أو أشواباً خليقاً أن يفروا ويدعوك) فرد عليه أبو بكر بهذه الكلمة الشديدة، ثم رد المغيرة أيضاً بضربه على يده، وما حصل بينهم من الحوار، ثم عملياً جعل عروة يرمق سلوك الصحابة رضي الله عنهم بعينيه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول: (فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده) وهذا تبركاً بآثار أو فضلات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتبرك بما ينفصل عن جسد النبي صلى الله عليه وسلم أو أجزائه كشعره وغير ذلك جائز شرعاً.
زاد ابن إسحاق: (ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه).
قوله: (وإذا أمرهم ابتدروا أمره) إذا أمرهم بأمر تسابقوا أيهم يكون الأول امتثالاً لهذا الأمر، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.
وهذا الحديث فيه دليل على طهارة النخامة، وطهارة الشعر المنفصل، ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة، وبالغوا في ذلك؛ إشارة منهم إلى الرد على ما خفي عليه منهم، وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحب إمامه هذه المحبة، ويعظمه هذا التعظيم؛ كيف يظن به أن يفر عنه ويسلمه لعدو؟! بل هم أشد ارتباطاً به وبدينه وبنصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضاً بمجرد الرحم، فيستفاد منه جواز التوصل إلى المقصود بكل طريق سائغ، فهم أرادوا أن يوصلوا له هذه الرسالة عن طريق هذه الوسائل، فإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه الذي يتناثر من أعضائه عند الوضوء، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وهكذا كان أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعدم إحداد النظر، هو أدب أصلاً مع كل كبير، حتى مع الوالدين أو غيرهم ممن يعظم، لا ينبغي للإنسان أن يحد النظر في أبيه أو في شيخه أو في مدرسه أو أستاذه، بخلاف هذه الأشياء التي نسمع فيها العجب الآن من طلاب المدارس وما يصنعونه مع مدرسيهم، فمن الأدب أنه لا يحد النظر بهذه الطريقة مع الوالدين وغيرهما ممن يعظم، وقد ذكر عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أنه قبل أن يسلم ما كان أحد أبغض إليه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد أن أسلم فيقول: فلم يكن أحد أحب إلي منه، ولم أكن -يعني: مع صحبته للرسول عليه الصلاة والسلام- أطيق النظر إليه، ولو أني سئلت أن أصفه ما أطقت! يعني: لو قال له أحد: صف لي صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وملامحه، لما استطاع ذلك! قال: لأني لم أكن أحد النظر إليه تعظيماً له صلى الله عليه وسلم أو كما قال رضي الله تعالى عنه، فـ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه كان إذا جلس الرسول عليه الصلاة والسلام لا يملأ عينيه منه إجلالاً له، وتعظيماً واستحياء منه عليه الصلاة والسلام، حتى أنه لو سئل أن يصفه لما أطاق ولما استطاع أن يصف ملامح النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول: (فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر) هذا من إطلاق الخاص بعد العام؛ لأن قيصر وكسرى والنجاشي من الملوك، وذكر الثلاثة لأنهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان.
وفي بعض الروايات: (فقال عروة: أي قوم! إني قد رأيت الملوك ما رأيت مثل محمد صلى الله عليه وسلم وما هو بملك، ولكن رأيت الهدي معكوفاً وما أراكم إلا ستصيبكم قارعة) أي: لأنكم إذا تعرضتم لهؤلاء الناس الذين قصدوا البيت محرمين فلابد أن يعاقبكم الله؛ فتصيبكم قارعة إذا منعتموهم من دخول الحرم، فانطلق هو ومن اتبعه إلى الطائف خشية أن ينزل العذاب وهو قريب من قريش.
وفي قصة عروة بن مسعود من الفوائد ما يدل على جودة عقله ويقظته، وما كان عليه الصحابة من المبالغة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، ومراعاة أموره، وردع من جفا عليه بقول أو فعل.
والتبرك بآثاره.
ولنذكر الجزء الذي شرحناه من هذا الحديث الطويل: يقول: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل! فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش؛ فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين, إن قريشاً قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإنهم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول.
قال: فانطلق حتى أتى قريشاً قال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذووا الرأي منهم: هات ما سمعته، قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟! قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـ بديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟! وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك.
فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بك لأجبتك.
قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شي.
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن؛ فابعثوها له، فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت! فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فم