تفسير الشنقيطي لقوله تعالى:(أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً)
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: بين الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمة سخافة عقول الذين عبدوا العجل، وكيف عبدوا ما لا يقدر على رد الجواب لمن سأله، ولا يملك نفعاً لمن عبده، ولا ضراً لمن عصاه، وهذا يدل على أن المعبود لا يمكن أن يكون عاجزاً عن النفع والضر ورد الجواب، وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأعراف في القصة:{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}[الأعراف:١٤٨].
ولا شك أن من اتخذ من لا يكلمه ولا يهديه سبيلاً إلهاً أنه من أظلم الظالمين؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها؛ لأن العابد في هذه الحالة أكمل من المعبود من حيث سريان الحياة فيه، ومع ذلك يعبد صنماً لا يسمع ولا يعي ولا يعقل، يقول: ونظير ذلك قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}[مريم:٤٢]، وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام:{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}[الشعراء:٧٢ - ٧٣]، وقوله تعالى أيضاً:{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ}[الأعراف:١٩٥]، وقال تعالى أيضاً:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:٥ - ٦]، وقال أيضاً:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر:١٣ - ١٤].
قال الشنقيطي: قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً يعني: هل يفهم من هذه الآية: أنه إن كان يرجع إليهم قولاً ويتكلم يصلح أن يكون إلهاً؟ لا، فليس المقصود بهذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً؛ لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة، ففوات واحد منها يقتضي عدم حصول المشروط، وحصول الواحد منها لا يقتضي حصول المشروط.
وهذا معروف في تعريف الشرط أنه ما يتوقف وجود الشيء على وجوده، ولا يتوقف على وجوده عدم ذلك الشيء، مثلاً: شروط الحياة بالنسبة للبذرة: أولاً: أن تكون البذرة نفسها سليمة.
ثانياً: لابد من التربة الصالحة ومن الماء والهواء، فالحياة في البذرة لابد فيها من شروط، فهل مجرد وجود شرط واحد يستلزم وجود هذه الحياة؛ لا، فقد يوجد الهواء فقط لكن البذرة مسوسة مثلاً أو غير ذلك من الشروط، ففي هذه الحالة لا يمكن أن تحصل الحياة، فكذلك الشيء الذي يعلق على أكثر من شرط لا يتحقق إلا بوجود جميع هذه الشروط، وإذا تخلف شرط واحد لا يقع الشيء، ووجوده وحده لا يقتضي وجود هذا الشيء؛ لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة، ففوات شرط منها يقتضي فوات المشروط، وحصول شرط منها لا يقتضي حصول المشروط، فمثلاً الصلاة من شروطها: الطهارة، استقبال القبلة، ستر العورة، فلو أن رجلاً استقبل القبلة وهو غير طاهر والمكان نجس وثوبه نجس، فهل تصح صلاته؟ لا تصح الصلاة مع أنه أتى بشرط من الشروط.
يقول: فكل ما توقف على شرطين فصاعداً لا يحصل إلا بحصول جميع الشروط، فلو قلت لعبدك: إن صام زيد وصلى وحج فأعطه ديناراً، لم يجز له إعطاؤه الدينار إلا بالشروط الثلاثة، ومحل هذا ما لم يمكن تعليق الشروط على سبيل البدل؛ فإنه يكفي فيه واحد، كما لو قلت لعبدك: إن صام زيد أو صلى فأعطه درهماً، فإنه يستوجب إعطاء الدرهم بأحد الأمرين، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود في مبحث المخصصات المتصلة بقوله: وإن تعلق على شرطين شيء فبالحصول للشرطين وما على البدل قد تعلقا فبحصول واحد تحققا وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري: أن هذا العجل اسمه يهموت، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة: أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل! كان المفروض أن يحافظوا على هذه الزينة التي هي الحلي إلى أن يأتي موسى فيرى فيها رأيه؛ فهم تورعوا عن زين القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل، قال: فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب يعني: هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق! قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني الحسين رضي الله عنهما- وهم يسألون عن دم البعوضة! انتهى منه.