تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)
قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:٧]، أي: فمن عمل في الدنيا وزن ذرة في الخير يرى ثوابه هنالك، والذرة: النملة الصغيرة، وهي مَثَلٌ تضربه العرب في كل ما هو صغير ودقيق، وقيل: الذر هو الهباء الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من النافذة، فينعكس ضوء الشمس على الذر الدقيق جداً.
وبعض الناس ممن يستغرقون في التفكير العلمي يفخرون بأن القرآن دل على أن الذرة تنقسم، واستدلوا بالآية: {وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ}، حيث زعموا أن فيها إشارة إلى الذرة، كما في سورة سبأ ويونس.
لكن هذا الكلام لا يسلم لهم؛ لأن المعهود والمعروف عند العرب من كلمة (ذرّة) أنها النمل الصغير، أو هذا الهباء، والعرب لم يقصدوا بكلمة (ذرّة) أنه الجزء الذي بتجمعه تكون الجزيئات، بل هذا اصطلاح علمي حادث.
فلا يجوز محاكمة القرآن أو فهم القرآن في ضوء ما حدث من الاصطلاحات، إنما نفهمه على لغة العرب، ولا نربط القرآن بمثل هذا الكلام، ونزعم أن القرآن جاء بهذا أو دل على أن الذرة تنقسم بدليل قوله: {وَلا أَصْغَرَ}، فالآية تعني أن هناك ما هو أصغر من الذرة، وأما ذاك التفسير فإنه من التعمق والتوسع في الربط بين القرآن وبين الاكتشافات العلمية.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٨]، أي: ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر فإنه يرى جزاءه ثمة، أي: هناك.
قال السيوطي في الإكليل: في هاتين الآيتين الترغيب في قليل الخير وكثيره، والتحذير من قليل الشر وكثيره، فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: هذه الآية أحكم آية في القرآن، وفي لفظ: أجمع آية في القرآن، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: الجامعة الفاذّة.
ففي الصحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن زكاة الحمر وسكت عن البغال) والجواب فيهما واحد؛ لأن البغل والحمار لا كر فيهما ولا فر، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم والثواب المستمر سأله السائل عن الحمر؛ لأنه لم يكن عندهم يومئذٍ بغال ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تسمى (الدلدل) والتي أهداها إليه المقوقس، فأفتاه في الحمير بعموم الآية، وأن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة، وسياق الحديث كان في الخيل، وثواب المجاهد في الخيل وما كان عليها من حبل وما خرج منها من روث كذلك يكون في ميزان حسنات المجاهد إلى آخره.
فسأله الرجل عن الحمير فأفتاه بعموم الآية، كما جاء في الحديث قال له: (ما أنزل الله فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨]).
فإذا كان من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومثقال ذرة شراً يره، فكم في الحمار من مثاقيل الذر؟! فلو أن إنساناً عنده حمار يستعمله في الخير فإن له أجراً على قدر ذلك.
فالشاهد هو: الاستدلال بعموم هذه الآية وأنه لم يخص الحمار بشيء معين، فهذا ينطبق على أي شيء قابل لأن يكون معيناً للإنسان على الخير أو على الشر، كل بحسبه.
وفي الموطأ: أن مسكيناً استطعم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وبين يديها عنب، فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويتعجب، فقالت: أتعجب! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرّة؟! وروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه تصدق بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال للسائل: ويقبل الله منا مثاقيل الذر، وبالتمرتين مثاقيل ذر كثيرة.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة)، فهذا الذي أتيح له أنه يتصدق له بتمرتين، لكن السائل استنكف أن يأخذ تمرتين! مع أن ربنا قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:٧]، فكم فيها من مثاقيل الذر؟! وروى الإمام أحمد والنسائي في الكبرى عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} إلى آخر السورة، قال: حسبي لا أبالي ألّا أسمع غيرها).