وهنا تنبيهات: الأول: يقول القاسمي: يظهر من سياق الآية أن قوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[الأعراف:١٥٦] إلى آخره، أن هذا جواب لموسى عليه السلام؛ وذلك أنه دعا بالمغفرة لقومه أجمعين، وطلب أيضاً حسنتي الدنيا والآخرة لهم، فأجيب: أولاً: أن ذلك لا يحصل لقومه كلهم براً أو فاجراً؛ لما سبق من تقدير الله سبحانه وتعالى العذاب لمن يشاء من الفجار حكمة منه وعدلاً، ولذلك قرأ الحسن وزيد بن علي هنا:(قال عذابي أصيب به من أساء ورحمتي وسعت كل شيء) وفي طيه أن ما أصاب قومه من الرجفة هو من عذابه تعالى، الذي شاء إصابتهم به لأفاعيلهم.
وثانيها: أنه لا يستأهل كتابة الحسنتين: في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة إلا المتقون المؤمنون بالآيات، المتبعون للنبي الأمي، فمن استقام على هذه الشرائط كتب له ذلك، ولا يقال على هذا: كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه؟ لأنكم لو تأملتم هذه الآيات، لوجدتم أنها عبارة عن دعاء من موسى عليه السلام لقومه.
ثم أتى الجواب يكشف لنا عظمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أن هذا الحوار والإجابة جاءت قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم بمئات السنين، فانظر كيف عظم الله عز وجل قدره، ونوه به فيما أوحاه إلى موسى:{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:١٥٦]؟ ثم استطرد عز وجل في وصف هؤلاء المؤمنين فقال:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:١٥٧]، فلا يقال: كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه؟ فإنا نقول: الاتباع أعم؛ هناك اتباع بالقوة، وهو: الإيمان به عليه الصلاة والسلام إجمالاً، فكل من تقدم على زمن بعثته، يجب عليهم أن يؤمنوا به إيماناً مجملاً، وأن يصدقوا بأخباره التي وردت على ألسنة رسلهم تبشيراً به صلى الله عليه وسلم، فهناك اتباع بالفعل، وهو اتباع فعلي وحقيقي وليس بمجرد القول، وهذا لمن لحق زمان بعثته صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية الكريمة تثبت أن موسى عليه السلام بشر ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلم بشأنه؛ لأن كتابة الرحمة موقوفة على اتباعه، وذلك في قوله:(ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون)، فذكر صفات هؤلاء الذي يستحقون الرحمة، ومن صفتهم الأساسية أنهم يؤمنون بالرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم.
وقال بعضهم: إن جواب موسى ينتهي إلى قوله تعالى: (والذين هم بآياتنا يؤمنون)، ثم استأنف تبارك وتعالى بقوله:(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) إلى آخره، فكأنه تعالى أعلم موسى بأنه ذو عذاب يصيب به من يشاء كما أصاب أصحاب الرجفة، وذو رحمة واسعة تكتب للمتقين المتصدقين المؤمنين بالآيات، أي: فأمر قومك بأن يكونوا من الفريق المرحوم بالمشي على هذا الوصف المذكور.
ثم استأنف تعالى الإخبار عمن يتبع النبي الأمي بأنهم المفلحون حقاً، وعليه فيكون قوله:(الذين يتبعون) مبتدأ، وخبره قوله تعالى:(أولئك هم المفلحون)، وتكون القصة تدعو بني إسرائيل بأنهم إذا اتبعوا النبي الأمي كانوا هم المفلحين.
وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى:(قال عذابي أصيب به من أشاء) ارتجال خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم قصد به إعلام أهل الكتاب المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأنهم إذا اتبعوه وآمنوا به وصدقوه حقت لهم رحمته تعالى الواسعة، وإلا فلا يأمنوا أن يصابوا بانتقامه تعالى، كما جرى لأسلافهم، وفي ذلك كله من التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه المتقين ما لا يخفى.