للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقسام البحث عما لا يوجد فيه نص]

قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين: أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب لا مكروه، بل ربما كان فرضاً على من تعين عليه من المجتهدين.

ثانيهما: أن يدقق النظر في وجوه الفروق، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وقت الجمع، أو العكس، فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود مرفوعاً: (هلك المتنطعون) أخرجه مسلم؛ لأن هذا فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع، كمسألة ليس لها أصل في الكتاب، ولا في السنة، ولا في الإجماع، وهي نادرة الوقوع، فيظل الإنسان يفرع فيها، فيفرع على الفروع، ثم يفرع على فروع الفروع، وينفق العمر في هذا، فيصرف فيها زماناً كان صرفه في غيرها أولى، خاصة إذا ترتب لها التحصيل فيما هو متعين عليه، أو فيما هو أكثر وقوعاً.

وأشد من ذلك -في كثرة السؤال- البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، فأشد من ذلك قبحاً وسوءاً أن الإنسان يظل ينقر ويخترع ويولد الأسئلة في أمور مغيبة الشرع لم يتعرض لها.

فمثلاً: ورد في القرآن والسنة أن الرجال من أهل الجنة سوف يزوجون الحور العين، فماذا عن النساء، وهل النساء لهن أزواج أيضاً مثل الحور العين؟! فهل هذا مما تعرض له القرآن؟! وهل هذا مما تعرضت له السنة؟! إذاً: لا تسأل عن هذا، ومتى ستفهم مثل هذا، فلو كان هذا مما يفيدنا في ديننا ومما يجب علينا الإيمان به والتعرف عليه لأوحى الله إلى رسوله قولاً قاطعاً في ذلك، لكن إذا لم يتعرض له الوحي فلا تضيع وقتك بالاشتغال فيما لا يعنيك، ففي الحديث: (من حسن الإسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فالله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، والله حكم عدل ودود غفور رحيم، يكرم عباده بكرمه وفضله، ولذلك لما سأل ذلك الرجل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: متى الساعة انتقل عن السؤال عما لا يعني إلى السؤال عما يعني، فقال: (وما أعددت لها؟) فهذا هو الذي يخصك.

ومن ذلك السؤال عن الروح، والسؤال عن مدة هذه الأمة، وأمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، ولا يوجد باب لهذا، فهذه الأشياء يكره السؤال عنها، وهي داخلة في النهي؛ لأنها أشياء مغيبة لا يدركها الحس، ثم إن الوحي الذي هو النافذة الوحيدة التي من خلالها نستطيع أن نصل إلى الإجابة القاطعة في هذه المسائل لم يبث فيها، ولم يخبرنا بأجوبتها، فدل على أنها مما لا يعنينا ومما لا ينبغي أن نشتغل به، فهذه الأشياء كلها لا تعرف إلا بالنقل الصرف، ولا نقل يوجد.

إذاً: ينبغي أن لا نسأل عن مثل ذلك، ولا نتحرى ولا نتنطع، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث.

وأشد من هذه الصورة -وهي التنطع والتحري فيما هو من الأمور الغيبية التي لا يدركها الحس ولم يتعرض لها النص- ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة، ويدخل في هذا السؤال المذموم عن الأشياء التي لو أكثرت السؤال عنها أوقعتك في الشك والحيرة، ومن هنا يأتي بلاء الوسوسة، وما أدراك ما الوسوسة والعذاب الذي يعيشه صاحبها! والتكدير الذي يطبق على حياته كلها! والخلل الذي يطرأ على حياته وعلى دينه وعلى واجباته! ومثال التنطع في السؤال أن يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن، وذلك كسؤال بني إسرائيل عن البقرة حين قال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:٦٧]، فلو أخذوا أي بقرة وذبحوها لانتهى الأمر، لكن لما تنطعوا وتشددوا شدد الله سبحانه وتعالى عليهم، فقالوا: يا موسى! {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:٦٨] فتنطعوا وتشددوا، ثم قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:٦٩ - ٧٠]، وفي هذه المرة قالوا: إن شاء الله {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:٧١]، فانظر كيف اقترن التنطع في الأسئلة بسوء الأدب! حيث قالوا: يا موسى! وهذا من سوء أدبهم مع نبيهم، ثم قالوا: (ادع لنا ربك) وكأنهم يقولون: هو ربك أنت وليس ربنا نحن ثم في ختام سوء أدبهم -لعنهم الله- قالوا: (الآن جئت بالحق) وكأنه قبل ذلك ما جاءهم بالحق.

فمثال التنطع في السؤال أن تسأل سؤالاً فيجيبك المفتي بالإباحة والرخصة والتسهيل، فتظل تفتش وتفتش حتى يفتيك بالمنع والتحريم والتضييق.

يقول بعضهم: ومثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي العالم بالإذن: أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ فالسائل يسأل عن السلع الموجودة في السوق تشترى هل لابد من أن الإنسان يتحرى من أين أتى بها صاحبها؟ ومن أين اشتراها؟ فيجيبه المفتي بالجواب فيقول: ما ينبغي لك أن تتحرى وحين تشتري لنفسك الأشياء المبنية على البراءة.

فيعود السائل إلى سؤاله فيقول: أخشى أن يكون ذلك من نهب أو غصب.

وبقدر الله يكون قد وقع في ذلك الوقت شيء من ذلك في الجملة، حيث تحصل حادثة نهب أو غصب في الحي القريب، أو في الشارع القريب، أو في نفس السوق، فيحتاج المفتي إلى أن يقول له: الورع يقضي بأن تمتنع عن شراء هذه السلعة.

وكان سهلاً على نفسه من البداية أن يشتري بدون تنطع، وكثيراً ما يحصل هذا نتيجة التنطع في السؤال والتدقيق والتفيهق والتكلف، فينتهي ذلك بالإنسان إلى المنع بعدما كان الشيء مباحاً، فهذا من شؤم هذا التنطع والتعمق في السؤال.

يقول: ويقيد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه في الجواز.

وإذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها -ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة- فإنه يذم فعله، وهو عين الذي كرهه السلف.

أي: لا مانع من أن تسأل سؤال المستفهم الراغب المتعلم؛ لأن طالب العلم كيف له أن يتعلم إذا لم يسأل؟! فنحن نريد أن نضع الكلام في موضعه المناسب واللائق به، فالإنسان لا يغلو في التعامل مع هذه القضية، أقصد قضية كثرة السؤال، فهناك طرفان ووسط: طرف الغلو، وهو أن يغالي الشخص ويتنطع ويتفيهق، ويفرع الفروع، وفروع الفروع، وفروع فروع الفروع إلى غير ذلك من صور التنطع التي ذكرناها.

وطرف الغلو الآخر أن يسد باب المسائل حتى ينسد عليه باب العلم، فلا يتعلم كثيراً من الأحكام حتى التي يحتاجها، بل يسد باب المسائل حتى المسائل التي يحتاجها الإنسان في دينه، أو يحتاج إليها طالب علم ليتعلمها، فيفوته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فهذا تكون نتيجته أنه يقل فهمه وعلمه.

وعلى الجانب الآخر من التوسع في تفريع المسائل وتوليدها -لا سيما إذا كانت المسائل نادرة الوقوع- إذا كان السائل يقصد بذلك المباهاة والمغالبة، فإنه يذم فعله، وهذا هو الذي كرهه السلف رحمهم الله تعالى، وقد وجدنا في بعض المجالس أن بعض الشباب يأتي إلى عالم جليل من العلماء، وهذا الشاب ربما استطاع أن يحصل شيئاً من العلم في مسألة من المسائل سهر فيها الليالي الطوال ليحصلها، فإذا جلس أمام الشيخ فإنه يبدأ باستدراجه، وهذا يحصل كثيراً جداً، وهذا ليس من الأدب في شيء، فيُظهر له في البداية أنه يسأل سؤال مستفهم، كأنه لا يعلم، فالعالم يفتي فيقول: المسألة حكمها كذا فإذا به يقول له: إن فلاناً يقول فيها كذا.

فيظهر من خلال الحوار أنه مطلع اطلاعاً واسعاً جداً على المسألة، وينتقل من المستفهم الراغب في العلم إلى المجادل المناظر الذي يحاول أن يحرج هذا الشيخ ويفحمه، حتى إنه حصل مرة مع فضيلة الشيخ: أبي بكر الجزائري هنا في الإسكندرية موقف مثل هذا، واستدرجه السائل أولاً بالسؤال، ثم ظل يجادل ويتنطع ويفرع ويحرجه، إلى أن قال الشيخ في غاية التواضع: يا أخي! اعذرني؛ فإني لا أحسن هذه المسألة.

فينبغي للإنسان أن يراقب نيته مراقبة دقيقة في موضوع السؤال، وأن يكون راغباً في العلم لا راغباً في المجادلة أو الإحراج.

يقول: من أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظاً على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصراً على ما يصلح للحجة منها، فإنه هو الذي يحمد وينتفع به، وهو طلب العلم من مضامينه، وتعلم مسائل الفقه، وتعلم الحديث والتفسير، وهكذا، هذا لا حرج فيه إذا كان بهذه الصورة، وهذا الذي سلكه فقهاء الأمصار من التابعين، فمن بعدهم.

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات: الإكثار من الأسئلة مذموم، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة، وكلام السلف الصالح.

ثم ذكر الآية وبعض الأمثلة التي أوردناها، ثم قال: والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية مذموم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه.