[تفسير قوله تعالى:(ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)]
قوله:{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:٤٢] أي: لا تخلطوا الحق بالباطل، الحق الذي أنزلت عليكم، بالباطل الذي تفترونه (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) عطف يعني: ولا تكتموا الحق، وهو نعت وصفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي: والحال أنكم تعلمون أنه الحق، والواو هنا (وأنتم تعلمون) واو الحال.
هنا يذكر القاسمي رحمه الله تعالى تنبيهاً فيقول: كثيراً ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها، فيقولون: أيها المسلمون يوجد في كتابكم عبارات أو نصوص أو آيات تؤكد أن التوراة هي كلام الله، وأن التوراة من عند الله كقوله عز وجل:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}[البقرة:٨٩]، وقوله:{وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}[يونس:٣٧] وقد ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة بما يرد استدلالهم بهذه الآية وأمثالها، ومعنى كون القرآن مصدقاً لما معهم، أي: مصدقاً لما تحتويه من صدق نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وصحة البشائر عنه؛ لأن التوراة محتشدة بعشرات الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسبق أن تكلمنا فيها من قبل في بحث الإيمان بالرسل، وأدلة صدق النبوة؛ والوقت الآن لا يحتمل التفاصيل، لكن معلوم أن الملائكة منذُ أن أتت بالبشارة إلى إبراهيم وهاجر بشرا أيضاً بخروج هذا النبي من نسل إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما قال تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}[البقرة:١٠١] أي: أنه جاء صدق ما عندهم في التوراة والإنجيل، بمعنى: أن أحوالهم جميعاً توافق البشائر.
قوله:{وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}[البقرة:٤١] أي: لا تكونوا أول كافر به من جنسكم أهل الكتاب، بعد سماعكم بمبعثي، فهذه الأولية نسبية، فإن يهود المدينة أول من خوطب بالقرآن من بني إسرائيل، أو هو تعريض بأنه يجب عليهم أن يكونوا أول من يؤمن به؛ لمعرفتهم به ولصفته، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحي إليه، وكانوا يستفتحون على الذين كفروا بخروجه صلى الله عليه وسلم، ويقولون للعرب: نحن ننتظر نبياً يبعث فننضم إليه ونهزمكم ونغلبكم، فلما بعث كفروا به عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[البقرة:٨٩].
ثم يقول تعالى:{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:٤٢]، وهذا تقبيح لحالهم، لأنهم إن كانوا لا يعلمون فربما عُذِر الجاهل، لكن كيف بمن يعلم أن هذا هو الحق، ويعرض عنه؟! أي: ليس لكم عذر؛ لأن الجاهل قد يعذر، أما العالم فلا يعذر في جحوده الحق.